الوجه الثاني: أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض «مصر» لقوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: ٥٩] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها.
فإن قيل: قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام المسجد، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ، وإن كانت مملوكةً له، فلم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى وَرَّثهم «مصر» بمعنى الولاية، والتصرف فيها، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟
قلنا: الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل.
وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم.
أما قوله «إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير» .
قلنا: نعم، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل.
وأما الثاني: فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل.
قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أيك جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير: [الكامل]
٥٤١ - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ
أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه.
ومن قال: إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ.
وقال بعضهم: هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان معجزة. و «الذِّلّة» : الصَّغَار.
والذُّلّ بالضم: ما كان عن قَهْرٍ، وبالكسر: ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب.
و «المَسْكَنَةُ» : مَفْعَلَة من السُّكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفَقْرِ، و «المسكين: مُفْعِيْل منه، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم» تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ «من» النَّدْلِ «و» الدَّرعِ «وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة.
وقال الراغب: قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.