وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته، وما أفضى ثبوته إلى عدمه، كان أصلاً باطلاً.
فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً، فبقي أن يكون متحركاً لغيره، وذلك الغير: إمَّا أن يكون سارياص فيه، أو مبايناً عنه، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً، عاد التقسيم الأول فيه، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى -.
فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [أفلاكٍ أخرى] ؛ وإلَاّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله عَزَّ وَجَلَّ:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} يعني: أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار، وحركاتِ الشَّمس والقمر، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل.
ولمَّا تم هذا الدليل، ختم الآية بقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار.
والجواب الثاني عن ذلك السؤال: أنَّ تأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب: قشره على طبع، وعجمه على طبعٍ، ولحمه على طبع ثالثٍ، وماؤه على طبع رابع، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم، والأفلاكِ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضاً إذا أضأنا الشمع، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب، وإذا ثبت هذا، فنسبة الشمس، والقمر، والأنجم، والأفلاك، والطبائع