فإن قيل: المؤثر في التسخير هو القدرة، لا الأمر؛ فكيف قال الله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} ؟ .
فالجواب: هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ، أم لا، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [والتقدير] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: ٤٠] .
ومنهم من قال: إنها ليست بجماداتٍ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ.
قوله: {وَمَا ذَرَأَ} عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني: ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر.
وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: وخلق، أو أنبت» .
كأنه استبعد تَسلطَ «وسَخَّرَ» على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً، و «مُخْتلِفاً» حال منه، و «ألْوانهُ» فاعل به.
وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم.
وجمع «آيَاتٍ» في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ، وثانياً ببدن الإنسان، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ.
قال علماء الهيئةِ: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ، وذلك هو البحر المحيط، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: ٢٧] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخيرها للخلق: جعلها بحيث يتمكن [الناس] من الانتفاع بها: إمَّا بالركوبِ، أو بالغوصِ.
واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ:
الأول: قوله تعالى {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} يجوز في «منهُ» تعلقه ب «لِتَأكُلوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية أو للتبعيض، ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: من حيوان، و «طَريًّا» فعيلٌ من: طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك «سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة» .