والثاني هو المراد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهو خلايا النحل، واختلفوا فيه.
فقال بعضهم: لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه.
وقال آخرون: المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى -: {يا أيها النمل}[النمل: ١٨] إن شاء الله - تعالى -.
ثم قال - تعالى -: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات}«مِنْ» هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله:{وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ}[النحل: ٢٣] أو لابتداء الغاية.
قال ابن الخطيب: رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول: هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل.
ومنهم من يقول: إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبداناه عسلاً، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى؛ فذلك هو العسل.
والأول أقربُ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، فكذلك ههنا، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء، وإذا كان ذلك، فقوله:«مِنْ كلِّ الثَّمراتِ» أن «مِنْ» هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض.
قوله:{فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ} أي: إذا أكلت من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك.
قوله تعالى:«ذُلُلاً» جمع ذَلُول، ويجوز أن يكون حالاً من السبل، أي: ذلَّلها لها