السؤال الثالث: نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس، فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لِبَاس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع.
والجواب: من وجوه:
الأول: أن ما أصابهم من الهزال والشحوب، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم.
الثاني: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان:
أحدهما: المذوق هو الطَّعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.
والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ، فأشبه اللِّباس.
فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين، فقال: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} .
الثالث: أن التقدير: عرفها الله لباس الجوع والخوف، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذَّوق بالفم، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم، تقول: ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر: [الطويل]
٣٣٦٥ - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها ... وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا
ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول: تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان.
الرابع: أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.
ثم قال - تعالى -: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد تكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله: {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: ٤] ولم يقل: قائلة.
وتحقيق الكلام: أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت