ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله. وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان الشَّارع غيره، كان الكلام كما في الأول، ولزم الدَّور والتَّسلسل، وهما محالان.
وثانيها: أنَّ الشَّارع، إذا جاء، وأوجب بعض الأفعال، وحرَّم بعضها، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول: إن تركت كذا، أو فعلت كذا، عاقبتك، فنقول: إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل، أو بالسَّمع، فإن وجب بالعقل، فهو المقصود، وإن وجب بالسَّمع، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلَاّ بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول، ويلزم التسلسل.
وثالثها: أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة، مع عدم العقاب، فلم يبق إلَاّ أن يقال: ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعاقب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقلي لا يمكن دفعه، وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان:
الأول: أن نجري الآية على ظاهرها، ونقول: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه، لما تقررت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل.
فالعقل هو الرسول الأصليُّ، فكان معنى الآية: حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل.
والثاني: أن نخصِّص عموم الآية، فنقول: المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلَاّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلَاّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة، وقد بينا قيام الدلائل الثلثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ.
قال ابن الخطيب: والذي نذهبُ إليه: أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فلا جرم: كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه.