والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام.
فإن قيل: لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمُهْلة، فقال: «ثم قست» ، وقال: «مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ» والبَعْدية لا تقتضي التعقيب، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟
فالجواب: أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال: من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات، فنزلت المهلة.
وقال أبو عبيدة: «معنى قَسَتْ: جفت» .
وقال الواقدي: خفت من الشّدة فلم تكن.
وقال المؤرخ: «غلظت» .
وقيل: اسودت.
وقال االزجاج: «القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع» .
قوله: «أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً» «أو» هذه ك «أو» التي في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: ١٩] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا، ولما قال أبو الأسود: [الوافر]
٥٩٣ - أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً ... وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا
اعترضوا عليه في قوله: «أو» التي تقتضي الشك، وقالوا له: أشككت؟ فقال: كلا، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ} [سبأ: ٢٤] فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رَحِمَهُ اللهُ الإبهام على المخاطب.
قال ابن الخطيب: كلمة «أو» للتردد، وهي لا تليق بعلَاّم الغيوب، فلا بد من التأويل وهو من وجوه: أحدهما: أنها بمعنى «الواو» كقوله: {إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: ١٤٧] وقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ} [النور: ٣١] وقوله: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ}
[النور: ٦١] ومن نظائره قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: ٤٤] .
وثانيها: أن المراد: فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة.
[وثالثها: أي: في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم: إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة] .