قيل: هذا على طريق التهديد؛ كقوله:{اعملوا مَا شِئْتُمْ}[فصلت: ٤٠] وكقول القائل: اعمل ما شئت؛ فسترى.
ولما قال تعالى له: افعل ما تقدر عليه، قال سبحانه:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} .
قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين؛ [لأن الله] تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله: {إِلَاّ مَنِ اتبعك}[الحجر: ٤٢] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس، وتخبيط عقولهم، وأنه لا قدرة له إلَاّ على الوسوسة، وأكَّد ذلك بقوله:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ}[إبراهيم: ٢٢] .
وأيضاً: لو قدر على هذه الأفعال، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم، دون سائر النَّاس؛ ليكون ضرره أتمَّ، ثم قال: وإنَّما يزولُ عقله؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه، فيغلب الخوف عليه، فيحدثُ ذلك المرض.
وقيل: المراد بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} أهل الفضل والإيمان؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ}[النحل: ١٠٠] .
ثم قال:{وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي: حافظاً، ومن توكل الأمور إليه، وذلك أنَّه تعالى، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان، قال:{وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ، أي أنَّ الشيطان، وإن كان قادراً؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه، وأرحم بعباده، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان.
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ، والإحجام عن الباطلا إنما يحصل للإنسان من نفسه، لوجب أن يقال: وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان، فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال:{وكفى بِرَبِّكَ} علمنا أنَّ الكل من الله تعالى، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلَاّ بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه.