للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

قوله تعالى: {يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ} .

قال الفرَّاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخافُ: أعلمُ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه - عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك، كان خائفاً لا قاطعاً، والأوَّلُون فسَّروا الآية، فقالوا: أخافُ، بمعنى أعلمُ ب «أن يسمِّك عذابٌ» يصيبك عذابٌ من الرحمن، إن أقمت على الكفر، «فتكُون للشيطانِ وليَّا» قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً.

وقيل: المرادُ بالعذابِ هنا: الخِذْلانُ، والتقدير: إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله، فتصير موالياً للشيطان، ويتبرأ الله منك.

فصل في نظم الآية

أعلمْ أنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر، والاستدلال، وترك التقليد، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي، ثم إنَّه - صلوات الله عليه - أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه: «يا أبت» دليلٌ على شدَّة الحبِّ، والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصَّواب، وختم الكلام بقوله: {ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ} وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ:

الأول: لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى:

{وبالوالدين

إِحْسَاناً} [الإسراء: ٢٣] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق، كان نُوراً على نُور.

والثاني: أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء.

وثالثها: - ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال صلوات الله عليه وسلامه -: «أوْحَى اللهُ - تبارك وتعالى - إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ، وأدينه من جواري» .

<<  <  ج: ص:  >  >>