للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: ٧٧، ٧٨] .

واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: ١٢] إلى أن قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: ١٤] .

واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة:

أحدها: أنَّ الطبيعي يقول: الثقيل هابط، والخفيف صاعد، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء، وأخفها النار ثم الهواء، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر، وهما أيْبَسُ ما في البدن، وهما بمنزلة الأرض، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب، وهي بمنزلة النار، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة.

وثانيها: أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات.

وثالثها: أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم، والمشروب، والملبوس، والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال، واللآلئ من البحار، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة، ويجمعون بين الأشياء المختلفة، ويستخرجون لذائذ الأطعمة، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها،

<<  <  ج: ص:  >  >>