وعن الثالث: إنّ المتمسك بالقياس فإن الظن واقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم فمقطوع به.
وعن الرابع: أنَّ المجتهد إذا تأمل واجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم كأن الله - تعالى - فهمه من حيث بين له طريق ذلك.
فهذا جملة الكرم في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد. وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أنْ يكون اختلافهما فيه بسبب النص، فوجهه أنْ يقال: إنَّ داود - عليه السلام - كان مأموراً بالحكم من قبل الله - تعالى - ثم إنه تعالى نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان خاصة، وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً.
وقوله:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} اي: أوحينا إليه. فإن قيل: هذا باطل لوجهين:
الأول: لما أنزل الله الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان.
الثاني: أن الله تعالى مدح كل واحد منهما على الفهم، ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح.
واعلم أنَّ القول الأول أولى، لأنه روي في الأخبار الكثيرة أن داود لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أنَّ غير ذلك أولى، وفي بعضها أنّ داود ناشده لكي يورده ما عنده، ولو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه. ووجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس: أن داود - عليه السلام - قوّم قدر الضرر في الكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم وكان عنده أنّ الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه.
وأما سليمان فأداه اجتهاده إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد وأما مقابلته بالزوائد فغير جائز، لأنه يقتضي الحيف، ولعل منافع الغنم في تلك