فالجواب لا نسلم أنها كانت محرمة، أما الذهاب، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية. وأما الغضب لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت}[القلم: ٤٨] كأن الله تعالى أراد لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل المنازل وأعلاها.
وأما الجواب عن قوله:{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فنقول من ظن عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء، فإن لا بدَّ فيه من التأويل، وفيه وجوه:
الأول:{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} نضيق عليه كقوله:
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ}[الرعد: ٢٦]{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}[الطلاق: ٧] أي: ضيق، وكذا قوله:{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ}[الفجر: ١٦] أي: ضيق، فمعناه: أن لن نضيق عليه، وهلى هذا فالآية حجة لنا، لأن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أنَّ الصلاح في تأخير خروجه، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنَّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك.
والثاني: أن يكون هذا من باب التمثيل، أي: فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله.
الثالث: أن يفسر القدر بالقضاء، والمعنى فظن أن لن نقدر عليه بشدة.
قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء والزجاج: يقال: قَدَرَ الله الشيء قَدْراً وقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فالقدر بمعنى التقدير، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير.