للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصوف وأكلوا الكامخ (١) لم نلمهم أيضًا، ولا نقول في هؤلاء من قد حمل على نفسه؛ لأن هذه عادة القوم.

فأما إذا كان البدن مترفًا قد نشأ على التنعم فإنا ننهى صاحبه أن يحمل عليه ما يؤذيه، فإن تزهد وآثر ترك الشهوات إما لأن الحلال لا يحتمل السرف، أو لأن الطعام اللذيذ يوجب كثرة التناول فيكثر النوم والكسل، وهذا يحتاج أن يعلم ما يضر تركه وما لا يضر؛ فيأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس.

وقد ظن أقوام أن الخبز القفار يكفي في قوام البدن، ولو كفى إلا أن الاقتصار عليه يؤذي من جهة أن أخلاط البدن تفتقر إلى الحامض والحلو والحار والبارد والممسك والمسهل، وقد جعل في الطبع ميل إلى الملائم، فتارة يميل إلى الحامض وتارة إلى الحلو، ولذلك أسباب: مثل أن يقل عندها البلغم الذي لابد في قوامها منه فتشتاق إلى اللبن، وتكثر الصفراء فيميل إلى الحموضة، فمن كفها عن التصرف على مقتضى ما قد وضع في طبعها مما يصلحها فقد آذاها، إلا أن يكفها عن الشبع والشره، وما يخاف عاقبته؛ فإن ذلك يفسدها.

فأما الكف المطلق فخطأ، فافهم هذا! ولا تلتفت إلى قول الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم ومجاهدة النفس بترك مباحاتها (٢)، فإن اتباع الشارع وصحابته أَوْلَى، وكان ابن عقيل يقول: ما أعجب أموركم في التدين: إما أهواء متبعة، أو رهبانية مبتدعة، بين تجرير أذيال المرح والصبا في اللعب، وبين إهمال الحقوق واطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد، فهلَّا عبادة على عقل وشرع!


(١) الكامخ: نوع من الأدم، وهو معرب. مختار الصحاح، اللسان (كمخ). وقال في "معجم الألفاظ الفارسية المعربة" (ص ١٣٧): هو إدام يقال له: المري.
(٢) انظر المكاسب للحارث المحاسبي (ص ٩٥) باب الورع والجوع، وقوت القلوب (٢/ ٣٢٠) الفصل التاسع والثلاثون في ترتيب الأقوات بالنقصان منها.

<<  <   >  >>