للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنتَ جمعتَ بَيْنَنا على تُقىً، فلا تُفرِّق بيننا يومَ تجمعُ فيهِ الأحباب. فأقمتُ معهُ مدَّةً طويلَةً، أراهُ يفعلُ ذلك في كلِ ليلةٍ، وأسمع هذا القولَ، فلمَّا هَمَمتُ بالانصرافِ مِن عندهِ قلت له: سمعتُك تقولُ إذا انقضَى الليلُ عنكَ كذا وكذا، فقال: أوَسَمِعْتني؟ قلت: نعم. قال: فواللهِ يا أخِي إنِّي لأداري من قلبِي ما لَو دَاراهُ سُلْطانٌ من رَعيَّتهِ لكانَ من اللهِ حقِيقًا بِالمغْفِرة. فقلتُ: وما الذي يدْعوكَ إلى صحْبَة مَن تخافُ عَلى نفسِكَ العَنَتَ مِن قِبَلِه؟! (١)

• وبالإسنادِ قال أبو محمد بن جعفر بن عبد الله الصُّوفي: قال أبو حَمْزةَ الصوفي: رأيتُ بِبَيْتِ المقدِسِ فتًى من الصوفيَّةِ يصحَبُ غُلامًا مُدَّة طوِيلَة، فماتَ الفتَى، وطالَ حُزْنُ الغُلامِ عليهِ، حتَّى صارَ جِلدًا وعظْمًا من الضَّنى والكَمَد، فقلتُ لهُ يومًا: لقد طالَ حزنُكَ على صديقِكَ حتى أظُنُّ أنكَ لا تسلُو بعدَهُ أبدًا. فقال: كيف أسلُو عن رَجُلٍ أجلَّ الله تعالى أنْ يعصِيهُ مَعَي طرفةَ عينٍ، وصانَنِي عن نجاسَةِ الفسوقِ في طولِ صُحْبَتي لهُ وخَلَواتي معهُ في اللَّيلِ والنَّهارِ (٢).

قال المصنِّفُ : قلت: وهؤلاءِ قومٌ رآهُم إبليسُ لا ينْجَذِبونَ معَهُ إلى الفواحِشِ فحسَّنَ لهُم بداياتِها، فتعجَّلُوا لَذَّة النظرِ والصُّحبَةِ والمُحَادثةِ، وعزَمُوا على مُقَاواةِ النَّفسِ في صدِّها عن الفاحشةِ، فإن صدَقوا وتمَّ لهم ذلِكَ، فقدِ اشتَغَل القلبُ الذي ينبغِي أن يكونَ شغلُهُ باللهِ تعالى بغيرِه، وصرف الزمانِ الذي ينبغِي أن يخلوَ فيهِ القلبُ بما ينفعُ في الآخرةِ بمُجَاهدَةِ الطَّبعِ في كفِّهِ عن الفاحشةِ.

وهذا كلُّهُ جهلٌ وخروجٌ عن آدابِ الشريعةِ، فإنَّ الله تعالى أمرَ بِغَضِّ البَصَرِ؛ لأنَّهُ طريقُ القلبِ، ليَسْلَمَ القلبُ للهِ تعالى من شائِب تَخَافُ منه، ومَا مَثَلُ هؤلاءِ إلا


(١) أخرجه أبو محمد جعفر السراج في كتابه مصارع العشاق ١/ ٢١٩.
(٢) أخرجه أبو محمد جعفر بن أحمد السراج - بسند الخبر السابق - في مصارع العشاق ١/ ١٢٠.

<<  <   >  >>