الشبهة الأولى: أَنَّهُم قالوا: إِذا كانتِ الأمورُ مُقَدَّرةً في القِدَم، وأنَّ أَقوامًا خُصُّوا بالسعادةِ، وأَقوامًا بالشَّقاوةِ، والسعيدُ لا يشقى، والشقِيُّ لا يَسْعَدُ، والأعمالُ لا تُرادُ لِذاتِها، بل لاجْتِلابِ السعادةِ ودَفْعِ الشقاوةِ، وقد سَبَقَنا وجودُ الأعمالِ، فلا وجْهَ لإِجهادِ النفسِ في عَمَلٍ، ولا لكفِّها عن ملذوذٍ؛ لأنَّ المكتوبَ في القَدَرِ واقعٌ لا محالةَ (١).
وجواب هذه الشبهة أَنْ يُقالَ لهَم: هذا ردٌّ لجميعِ الشرائعِ، وإِبطالٌ لأحكامِ جميعِ الكُتُبِ، وتَبْكيتٌ للأنبياءِ كُلِّهِم فيما جاؤوا بهِ؛ لأنَّهُ إِذا قالَ في القُرآنِ ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام: ٧٢] قالَ القائلُ: لماذا؟ إِنْ كُنْتُ سعيدًا؛ فسأصير إلى السعادةِ! وإِنْ كنتُ شقيًّا؛ فما ينفعني إِقامةُ الصلاةِ؟ وكذلك إذا قالَ: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء: ٣٢]؛ قال: لماذا أَمْنَعُ نفسي مَلْذُوذَها، والسعادةُ والشقاوةُ مَقْضِيَّتانِ؟ وكذا لفرعَوْنَ أَنْ يقولَ لموسى ﵇ حينَ قالَ لهُ: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى﴾ [النازعات: ١٨] مثلَ هذا الكلامِ.
ثم يترقَّى إلى الخالِق، فيقولُ: ما فائِدةُ إِرسالِكَ الرُّسُلَ وسَيَجْري ما قدَّرْتَهُ؟
وما يُفْضي إِلى ردِّ الكُتُبِ وتجهيلِ الرُّسُلِ محالٌ باطلٌ، وهذا هو الذي رده الرسول ﷺ على أَصحابِهِ حينَ قالوا: ألا نَتَّكِلُ؟ فقالَ:"اعْمَلوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ".
(١) وهذا قولهم في القضاء والقدر وقد تقدم بيانه ص ٥٥٦.