وكانَ رجُلٌ مِن أَهلِ البصرةِ قد أَتى بيتَ المقدِسِ، فدخلَ على الحارثِ، فأَخذَ في التحميدِ، ثم أَخْبَرَهُ بأَمرهِ، وأنَّهُ نبيٌّ مبعوثٌ مُرْسَلٌ! فقالَ لهُ: إِنَّ كلامَكَ لَحَسَنٌ، ولكنْ في هذا نَظَرٌ. قال: فانظر.
فخَرَجَ البَصْرِيُّ، ثم عادَ إِليهِ فردَّ عليهِ كلامَهُ، فقال: إِنَّ كلامَكَ لَحَسَنٌ، وقد وقَعَ في قَلبي، وقد آمنْتُ بكَ، وهذا الدينُ المستقيمُ.
فأَمَرَ أَنْ لا يُحْجَبَ فأَقبلَ البصريُّ يتردَّدُ إِليهِ، ويعرِفُ مَداخِلَهُ ومَخارِجَهُ، وأَينَ يهْرُبُ! حتى صارَ مِن أَخَصِّ الناسِ بهِ ثم قالَ لهُ: ائْذَنْ لي أمشي. فقالَ: إِلى أَينَ؟ قالَ: إِلى البصرةِ، أَكونُ أَوَّلَ داعٍ لكَ بها. قال: فأَذِنَ لهُ، فخَرَجَ مُسرعًا إِلى عبدِ الملكِ وهو بالصنبرة، فلمَّا دَنا من سُرادِقِهِ صاحَ: النَّصيحَةَ النصيحةَ. فقالَ أَهلُ العَسْكَرِ: وما نصيحَتُك؟ قالَ: نصيحةٌ لأميرِ المؤمنينَ.
قال: حتى دنا من أمير المؤمنين، فأَمرَ عبدُ الملكِ أَنْ يَأْذَنوا لهُ فدَخَل وعندَهُ أَصحابُه. قال: فصاحَ: النصيحَةَ. قالَ: وما نصيحَتُكَ؟ قالَ: أَخْلِني، لا يَكُنْ عندَك أَحَدٌ. فأُخْرِجَ مَن في البيتِ، ثم قالَ: أدنني. قالَ: ادْنُ. فدَنا وعبدُ الملكِ على السَّريرِ. قال: ما عندَكَ؟ قالَ: الحارِثُ.
فلمَّا ذَكَرَ الحارِثَ طَرَحَ عبدُ الملكِ نفسَهُ مِن السريرِ ثم قالَ: أَينَ هُو؟ قالَ: يا أَميرَ المؤمِنينَ! هُو بِبَيْتِ المقدسِ، قد عرفتُ مداخِلَهُ ومخارِجَهُ. فقصَّ عليهِ قصَّتَهُ، وكيفَ صنَعَ بهِ.
فقالَ: أنتَ صاحِبُهُ، وأَنتَ أَميرُ بيتِ المقدسِ، وأَميرُنا هاهُنا، فمُرْني بما شئتَ. قالَ: يا أميرَ المؤمنينَ! ابْعَثْ معيَ قومًا لا يَفْهَمونَ الكلامَ، فأَمَرَ أَربعينَ رجلًا مِن فَرْغَانَةَ، فقالَ: انْطَلِقوا معَ هذا، فما أَمَرَكُم بهِ مِن شيءٍ؛ فأَطيعوهُ.