تركوهُ قليلٌ، وما يَرْجونَهُ كثيرٌ ولو أَنَّهُم ميَّزوا بينَ ما آثَروا وما أَفاتوا أَنفُسَهُم لَرَأَوْا تعجيلَ ما تَعَجَّلُوا إذ فاتهمُ الربحُ الدائِمُ وأَوقَعَهُم في العذابِ الذي هُو الخسرانُ المبينُ الذي لا يُتَلافى.
° ومنهُم مَن يقولُ: الربُّ كريمٌ، والعفوُ واسعٌ، والرجاءُ مِن الدِّينِ. فيُسَمُّونَ تَمَنِّيَهم واغتِرارَهُم رجاءً، وهذا الذي أَهْلَكَ عامَّةَ المُذْنِبينَ.
قالَ أَبو عَمْرو بن العلاءِ: بَلَغَني أَنَّ الفرَزْدَقَ جلسَ إلِى قومٍ يتذاكرون رحمَةَ اللهِ، فكانَ أَوْسَعَهُم في الرجاءِ صَدْرًا. فقالوا لهُ: فلِمَ تقْذِفُ المُحْصَناتِ؟ فقالَ: أَخْبِروني لو أَذنَبْتُ إِلى والديَّ ما أَذنَبْتُهُ إِلى ربِّي ﷿ أَتُراهُما كان يَطيبانِ نفسًا يَقْذِفاني في تَنُّورٍ مملوءٍ جَمْرًا؟ قالوا: لا، بل كانا يرحَمانِك. قالَ: فإِنِّي أَوْثَقُ برحْمَةِ ربِّي منهُما (١)!
قالَ المصنف قلتُ: وهذا هو الجهْلُ المحْضُ؛ لأنَّ رحمةَ الله تعالى ليستْ برقَّةِ طبعٍ، ولو كانتْ كذلك لما ذُبِحَ عُصفورٌ، ولا أُميتَ طِفلٌ، ولا دخل أَحدٌ إِلى جهَنَّمَ.
أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا جعفر بن أحمد السراج، قال: وجدت بخط محمد بن نصر بن أحمد بن مالك، يقول: حدثني أبو بكر محمد بن الفضل البزاز، قال: أنا بكر بن أحمد بن فرج بن عبد الرحيم، قال: أنا عَبَّاد، قالَ: قال الأصمَعِيُّ: كنتُ مع أَبي نُوَاسٍ بمكَّةَ، فإِذا أَنا بغُلامٍ أَمرد يستَلِمُ الحَجَرَ، فقالَ لي أَبو نُواسٍ: واللهِ لا أَبْرَحُ حتى أُقَبِّلَهُ عندَ الحَجَرِ، فقلتُ: ويْلَكَ! اتَّقِ اللهَ ﷿، فإِنَّكَ في بلدٍ حرامٍ، وعندَ بيتِه. فقالَ: ما منهُ بدٌّ. ثم دَنَا من الحَجَرِ وجاء الغلام يستَلِمُهُ فبَادَرَ أبو نُواسٍ فوضَعَ خَدَّهُ على خَدِّ الغُلامِ، وقبَّلَهُ والله وأَنا أَرى، فقلتُ: ويلكَ! في حَرَمِ الله ﷿. فقالَ: دع ذا عنكَ، فإِنَّ ربِّي رحيمٌ. ثم أَنشأ يقولُ:
(١) أخرج نحوه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ص ١٠١ وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ٩/ ٢٦٦ والحافظ في لسان الميزان ٦/ ١٩٨.