ثم القياس ـ وهو قول زُفَر، وروايةُ أَبي الليث عن أَبي حنيفة رحمهم الله تعالى ـ أَنَّ للغاصب الانتفاعَ بهذا المغصوب قبل أَداء بَدَله، لأَن مِلْكه حدث بكسبه، والمِلْك مُبِيحٌ للتصرف، ولهذا لو وَهَبَهُ أَوْ باعه صَحَّ.
وَوَجْه الاستحسان مَا روى أَبو داود رحمه الله تعالى في «سُننه» في أَول البيوع عن عاصم بن كُلَيْب، عن أَبيه عن رَجُلٍ من الأَنصار قال: خرجنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في جَنَازةٍ، فرأَيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو عَلَى القَبْر يوصِي الحَافِرَ: أَوْسِع مِنْ قِبَلِ رِجْلَيه، أَوْسِع مِنْ قِبَل رَأْسِهِ، فلما رجع استقبله داعي امرأَة فجاء، فجيء بالطعام فوضع يده، ثُمَّ وضع القوم أَيديهم فَأَكَلُوا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه. ثُمَّ قال:«إِني أَجد لحم شاة أَخذت بغير إِذن أَهلها. فقالت المرأَة: يا رسول الله، إِني أَرسلتُ إِلى البقيع، ليُشْتَرى لي شاةٌ فلم أَجِد، فأَرسلت إِلى جار لي قد اشترى شاةً أَنْ يرسلها إِليَّ بثمنها فلم يوجد، فأَرسلت إِلى امرأَته فأَرسلت إِليَّ بها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «أَطعميه الأُسارى».
فأَفاد هذا الأمرُ بالتَّصَدُّق زوالَ مِلْك المالك وحُرْمَةَ الانتفاع للغاصب قبل الإِرْضاء، ولأَن في إِباحة الانتفاع قبل إِرضاء المالك فتحاً لِبَابِ الغصب، فيَحْرُم حسماً لمادة الفساد، والله رؤوف بالعباد.
ونفاذ بيعه وهبته مع الحرمة لقيام الملك بجهة محظورة، كما في ملك الفاسد. ولو أَدَّى الغاصب المالك البدَل أُبيح له التناول، لأَن حق المالك صار مُوفّىً بالبدل فتحقق بينهما مبادلة بالتراضي، وكذا لو أَبرأَه، لأَن حقه يسقط بالبراءة، وكذا لو ضَمِنه المالك أَوْ الحاكم لوجود الرضاء منه، لأَن الحاكم لا يضمنه إِلا بعد طلبه فكان راضياً به.
(بِخِلَافِ الحَجَرَيْنِ) الذهب والفضة، فإِنَّ جَعْلهما إِناءً، أَوْ دنانير، أَوْ دراهم لا يزيل مِلْك مالكهما عنهما (فَهُمَا للمَالِك بلا شيءٍ) للغاصب عند أَبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأَحمد رحمهم الله تعالى. وقال أَبو يوسف ومحمد: يَمْلِكهما الغَاصِب وعليه مِثْلُهما.