(وَإِنْ كَانَ نَفْسُ القَضَاءِ مُخْتَلفاً فِيهِ) مثل القضاء على الغائب، وقضاء المحدود في القذف بعد التوبة، وقضاء الفاسق قبل التوبة. (يَصِيرُ مُجْمَعاً عَلَيْهِ بِإِمْضَاءِ) قاضٍ (آخَرَ) لأن محلّ الخلاف لم يوجد قبل القضاء، بل وُجِدَ بعده فلا بدَّ من قضاءٍ آخر للترجيح.
(وَالْقَضَاءُ بِحُرْمَةٍ أَوْ حِلَ يَنْفُذُ ظَاهِراً وَبَاطِناً) أي عند الله (وَلَوْ بِشَهَادَةِ زُورٍ) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف أولاً. وقال محمد وأبو يوسف آخِراً كمالك والشَّافعي وأحمد: لا ينفذ بالزور إلاّ ظاهراً وعليه الفتوى، كما لو كان الشهود عبيداً أو محدودين في قذفٍ أو كفاراً، والمشهود له يعلم بحالهم دون القاضي، أو كما لو قضى القاضي بنكاح الرَّجل على امرأةٍ منكوحةٍ أو معتدّة لغيره، وكما في الأملاك المرسلة.
(إِذَا ادَّعَاهُ بِسَبَبٍ مُعَيّنٍ) قيّد به لأن القضاء بحلَ وحرمةٍ في المدَّعى بلا سببٍ لا يَنْفُذُ إِلاّ ظاهراً بالاتفاق. ثم معنى النفاذ ظاهراً: أن تسلّم المرأة نفسها له بقول القاضي: سلِّمي نفسك فإنه زوجك، والنفاذ باطناً: أن يحلّ له وطؤها ويحلّ لها التمكين فيما بينهما وبين الله تعالى.
ولنا: أن القضاء لقطع المنازعة، وقد عُهِدَ نفوذ القضاء بمثل ذلك في الشرع، ألا ترى أنّ التفريق باللعان ينفذ باطناً وأحدهما كاذبٌ بيقينٍ؟ وكذا إذا اختلف المتبايعان وتحالفا يَفسخ القاضي بينهما البيع، فينفذ الفَسْخ باطناً حتى يحلّ للبائع وطاءُ الجارية المبيعة، فكذا في باقي الفسوخ والعقود، وأمّا العبيد والكفار والمحدودون في القذف، فيمكن الوقوف عليهم بخلاف الشهود الزور.
وعدم النَّفاذ في الحكم بنكاح منكوحة الغير أو معتدّته لفوات شرط الحكم لا لِزُور الشهود، إذ شرط الحكم أن يكون في محلّ قابلٍ له، ومنكوحة الغير ومعتدّته ليست بمحلٍ للنكاح، وإنما لم ينفذ باطناً في المدّعي بلا سببٍ، لأن في أسباب الملك تزاحماً إذ الملك تارةً يثبت بالشِّراء وتارةً بالإرث وغيره، وليس تعيين بعض أولى من بعض. وإثبات الملك مطلقاً من غير سببٍ ليس في وسع البشر بخلاف المدَّعي بسببٍ معينٍ، كالبيع والشراء والإجارة والنِّكاح والإقالة والفُرْقة بطلاقٍ أو غيره. وفي الهبة والصدقة روايتان.
احتجّ أبو حنيفة بما رُوِيَ أنّ رجلاً ادّعى على امرأةٍ نكاحاً بين يديّ عليّ كرّم