للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يُفتَى. وكفى السؤالُ سِرًّا في زمانِنِا.

===

يُفتى) لكثرة الفساد في هذا الزمان بين العباد، وهو قول الشافعي وأَحمد. وقال مالك: يجب عليه السؤال إِذا شك وإِن سكت الخصم، إِلا أَنْ يُقر بِعَدَالَتِهِمَا، لأَن القضاء مبنيٌ على الحجة وهي شهادة العُدُول. وقال أَبو حنيفة: يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يَسأَل عنه حتى يَطْعُن الخصمُ، إِلا في الحدود والقِصاص، لأَنهما يُدْرَآن بالشُبْهة ويُحْتاط لإسقاطهما، فيستقصى في كل منهما ابتداءً من غير طعن من خصم، رجاءَ أَنْ يسقط.

ولما روى ابن أَبي شيبة في «مصنفه» عن عمرو بن شعيب، عن أَبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض إِلا محدوداً في قذف» وفي نُسخة: «إِلا في فِرْية». ومثله عن عمر رضي الله عنه. وهذا من صاحب الشرع وخليفته أَقوى من تعديل المزكِّي. وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، لأَن أَبا حنيفة كان في القرن الثاني وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَهله بالخير والصلاح حيث: قال: «خيرُ القرونِ قَرْنِي ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يَلُونهم» (١) وأَبا يوسف ومحمد كانا بعده، وقد تغيرَّت أَحوالُ الناس وكثرت الخيانات والكذب في الشهادات، كما أَخبر عنهم صلى الله عليه وسلم أَنه يفشو الكذب فيهم (٢) .

(وكفى السؤالُ سِراً في زمانِنِا) تحرزاً عن الفتنة. وكيفيته أَنْ يبعثَ القاضي مع المُعدِّل المستورة، وهي: رُقعة فيها اسم الشاهد، ونسبُه، وحِلْيتُه (٣) ، ومسجده الذي يُصلي فيه، ومحلَّتُه، وسوقُه إِنْ كان سوقياً، فيسأَل جيرانَه وأَصدقاءه، فمن عَرَفه بالعدالة يكتب تحت اسمه في كتاب القاضي أَنه عدلٌ جائز الشهادة، ومن عَرَفه بالفسق لا يذُكر حالَه احترازاً عن الهتك، بل يقول: الله أَعلم، إِلا إِذا عدَّلَه غيره وخاف أَنْ يحكم القاضي بشهادته، فحينئذٍ يُصَرِّحُ بحاله. ومن لا يُعْرَف حالُهُ يُكتبُ تحت اسمه أَنه مستور، ويَرُدُّ المُعدِّلُ المستورةَ إِلى القاضي سراً.


(١) أَخرجه البخاري في صحيحه (فتح الباري) ٧/ ٣، كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (٦٢)، باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (١)، رقم (٣٦٥٠ و ٣٦٥١)، ولفظه: "خير أَمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". و: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
(٢) وكأَنه يريد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوصيكم بأَصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يَلونهم، ثم يفشُوا الكذب حتى يحلفَ الرجُلُ ولا يُسْتحلَف، ويَشهَدَ ولا يُستَشْهَد .. ،" أَخرجه الترمذي ٤/ ٤٠٤، كتاب الفتن (٣١)، باب ما جاء في لزوم الجماعة (٧)، رقم (٢١٦٥).
(٣) حُِلْيَة الإنسان: بضم الحاء وكسرها: صفته وما يُرَى منه من لونٍ وغيره. "العناية" بهامش "فتح القدير" ٦/ ٤٥٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>