للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَلا يَجِبُ على مُكَاتَب ولا بعد الوُصول لأَيَّام كان ضِمَارًا، كَمَفْقُودٍ

===

وعلى هذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده، فلما وَلِيَ عثمانُ وظَهَرَ تَغَيُّرُ الناس كَره أَنْ يُفَتِّشَ العمالُ مستورَ أَموال الناس، ففوَّضَ الأَموال الباطنة إِلى أَربابها نيابةً عنه، خوفاً عليهم من السُّعاة السوء، ولم يختلف عليه الصحابة في ذلك، وهذا (١) لا يُسْقِطُ طلبَ الإِمام أَصلاً، ومِن ثَمَّ لو عَلِم أَنَّ أَهْلَ بلدة لا يودُّونها طالبهم بها.

وإِنَّما شُرِط في وجوب الزكاة فراغُ المال عن الدَّيْن، لأَنَّ المال مع الدَّيْن مشغول بالحاجة الأَصلية، وهو دفع الحبس عن المَدْيون. والحاصل: أَنَّا لا نُوجِبُ الزكاة على مديون مُسْتَغْرِق ـ ولو بكفالة ـ نِصَابَهُ. وبه قال مالك، وأَوجبها الشافعي في أَظهر أَقواله، لأَنَّ السبب مالٌ نامٍ، ولا خلل في مِلْكِهِ، لأَنَّ الدَّيْن يتعلق بالذِّمَّة لا بالمال، ولذا يَنْفُذُ تصرفه فيه ببدلٍ، وبغيره، ولا في النماء لأَنَّهُ مُعَدٌّ للتجارة وضعاً أَوْ فعلاً.

ولنا ما في «الموطأ» عن السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ، أَنَّ عثمانَ كان يقول: هذا شَهْرُ زكاتكم، فَمَنْ كان عليه دَيْنٌ فليؤد دَيْنه، حتى تخلص أَموالكم، فتؤدون منها الزكاة، ولأَنه مشغول بحاجته (١) الأَصلية، وهي رفع المطالبة، والملازمة، والحبس في الحال، والمؤاخذة في المآل. إِذِ الدَّيْنُ يَحُولُ بينه وبين الجنة، وأَي حاجة أَعْظَمُ من هذه، فاعْتُبِرَ معدوماً، كالماء المُسْتَحَقِّ للعطش، وثياب البِذْلَة (٢)، وعبيد الخدمة. ولأَنَّ المديون فقير، ولهذا يَحِلُّ له الصدقة مع تَمَكُّنِهِ من ماله، والصدقة لا تَحِلُّ لِغَنِي ولا تجب إِلاَّ على غَنِي.

(فَلَا يَجِبُ على مُكَاتَب) وإِنْ زاد ما بيده على مال كِتَابَتِهِ، لأَنه مالك لما في يده من المال يداً لا رقبةً، لأَن كَوْنَه رِقَّاً ينافي أَنْ يَملِكَ من كُلِّ وجه. (ولا بعد الوُصول) إلى المال (لأَيَّام) أَي لأَجل أَيَّام (كان) إلى المالُ (ضِمَاراً) فيها، بأَنْ كان المالُ عينه قائمة، ولا يَقْدِرُ المالك على الوصول إِليه، لأَنَّ المال حينئذٍ مملوكٌ رقبةً لا يداً، لعدم القدرة عليه.

(كَمَفْقُودٍ) هذا وما عُطِفَ عليه مِثَالٌ للمال الضِّمَارِ، والمفقود يتناول الآبق إِذا كان عبداً للتجارة، والمال الساقط في البحر، والمدفون في البرية. وأَمَّا المدفون في البيت فليس بِضِمَار، لأَنَّه يمكن الوصول إِليه، وفي المدفون في أَرض الرجل أَوْ كَرْمه، اختلف مشايخ بُخَارى، فقيل: يجب لإِمكان حَفْرِ جميع الأَرض، وقيل: لا يجب لأَنَّ


(١) أي: وهذا التفويض للناس بأموالهم الباطنة.
(٢) البِذْلة: ما يُلْبَس في المهنة والعمل ولا يصان، المعجم الوسيط، ص ٤٦، مادة بَذَلَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>