ولما روى أَبو داود والنَّسائي عن حذيفة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقَدَّمُوا الشهر حتى تَرَوا الهِلال، أَوْ تُكْمِلوا العدَّة، ثُمَّ صوموا حتى تروا الهلال أَوْ تُكْمِلُوا العِدَّة». وما في أَبي داود والترمذي عن ابن عباس مرفوعاً:«لا تصوموا قبل رمضانَ، صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته، فإِنْ حال بينكم وبينه سحابٌ فكمِّلوا العِدَّة ثلاثين، ولا تستقبلوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً». وصححه الترمذي. وما في البخاري:«لا تصوموا حتى تَرَوا الهِلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإِنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له». وفي رواية له:«صوموا لرؤيته، وأَفطروا لرؤيته». وما في السنن الأَربعة عن صِلَة بن زُفَر قال: كنا عند عمَّار في اليوم الذي شُكَّ فيه، فأَتى بشاةٍ مَصْلِيَّةٍ (١) فَتَنَحَّى بعض القوم، فقال عمَّار:«مَنْ صام هذا اليوم فقد عَصَى أَبا القاسم».
وما رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» من قول ابن عباس: «مَنْ صام اليوم الذي شك فيه، فقد عَصَى اللهَ ورسولَه». وما رواه البَزَّارُ من حديث أَبي هريرة:«نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ستة أَيام من السنة: يوم الأَضحى، ويوم الفِطْر، وأَيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه من رمضان. وأَما قول صاحب «الهداية»: للحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:«مَنْ صام يوم الشك فقد عصى أَبا القاسم»، فَرَفْعُهُ غير معروف، وإِنَّما هو من قول عمار كما تقدم، والله سبحانه أَعلم.
ولنا ما في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر، أَنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل:«هل صمت من سَرَرِ شَعْبَان؟» قال: لا، قال:«وإِذا أَفطرت فصم يوماً مكانه». وسَرَر الشَّهْر ـ بفتح السين وكسرها ـ: آخِرُه، كذا قال جمهور أَهل لغة الحديث: وسُمِّي بذلك لاسترار القمر فيه واختفائه، ذكره المُنْذِري. وربما كان ليلةً وربما كان ليلتين، وقد استدل به الإِمام أَحمد على وجوب صوم يوم الشك.
وعندنا هذا يفيد استحبابه لا وجوبه، لأَنه مُعَارَض بنهي التقدم بصيام يوم أَوْ يومين، فيحمل على كون التقدم بصوم رمضان جَمْعاً بين الأَدلة وهو واجب ما أَمْكن، ويصير حديث السَّرر للاستحباب، ولأَنَّ المعنى الذي يُعْقَل فيه هو أَنْ يختم شعبان بالعبادة، كما يستحب ذلك في كل شهر. فهو بيان أَنَّ هذا الأَمر ـ وهو صوم الشهر ـ بعبادة الصوم لا يختص بشهر شعبان، كما قد يتوهم بسبب اتصال الصوم الواجب به.