الخلجان ففاض الماء، وساح وغمر القيعان والبطاح، وانضم الناس إلى أعالي مساكنهم من الضياع والمنازل وهي على آكام وربا لا ينتهي الماء إليها ولا يتسلط السيل عليها، فتعود أرض مصر بأسرها عند ذلك بحرا غامرا لما بين جبليها ريثما يبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله عز وجل له، وأكثر ذلك يحوم حول ثماني عشرة ذراعا، ثم يأخذ عائدا في صبه إلى مجرى النيل ومسربه، فينضب أوّلا عما كان من الأرض عاليا ويصير فيما كان منها متطامنا، فيترك كل قرارة كالدرهم، ويغادر كل ملقة كالبرد المسهم.
وقال القاضي أبو الحسن عليّ بن محمد الماورديّ «١» في كتاب الأحكام السلطانية:
وأما الذراع السوداء فهي أطول من ذراع الدور بأصبع وثلثي أصبع، وأوّل من وضعها أمير المؤمنين هارون الرشيد قدّرها بذراع خادم أسود كان على رأسه قائما، وهي التي تتعامل الناس بها في ذرع البز والتجارة والأبنية، وقياس نيل مصر.
وأكثر ما وجد في القياس من النقصان سنة سبع وتسعين ومائة وجد في المقياس تسعة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. وأقل ما وجد منه سنة خمس وستين ومائة فإنه وجد فيه ذراع واحد وعشر أصابع، وأكثر ما بلغ في الزيادة سنة تسع وتسعين ومائة فإنه بلغ ثمانية عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا، وأقل ما كان في سنة ست وخمسين وثلثمائة الهلالية فإنه بلغ اثني عشر ذراعا وتسع عشرة أصبعا، وهي أيام كافور الإخشيدي.
والمقياس عمود رخام أبيض مثمن في موضع ينحصر فيه الماء عند انسيابه إليه، وهذا العمود مفصل على اثنين وعشرين ذراعا، كل ذراع مفصل على أربعة وعشرين قسما متساوية تعرف بالأصابع ما عدا الاثني عشر ذراعا الأولى، فإنها مفصلة على ثمان وعشرين أصبعا كل ذراع.
وقال المسعوديّ: قالت الهند: زيادة النيل ونقصانه بالسيول ونحن نعرف ذلك بتوالي الأنواء وكثرة الأمطار.
وقالت الروم: لم يزد قط ولم ينقص وإنما زيادته، ونقصانه من عيون كثرت واتصلت.
وقالت القبط: زيادته ونقصانه من عيون في شاطئه يراها من سافر ولحق بأعاليه.
وقيل: لم يزد قط وإنما زيادته بريح الشمال إذا كثرت، واتصلت تحبسه، فيفيض على وجه الأرض.
وقال قوم: سبب زيادته هبوب ريح تسمى ريح الملتن، وذلك أنها تحمل السحاب