فأقام ثلاثة أشهر حتى بنى رصيفا دك أساسه بالحجر والرصاص، وأعلاه بالحجر والكلس، وعمل فيه ثلاثين قنطرة، وأنشأ خانا ينزله الناس، ورتب فيه الخفراء ووقف على مصالحه رزقة، فبلغ مصروفه نحو الستين ألف دينار مصرية سوى ما أخذ من الحجارة التي بعضها من قصر قديم كان خارج الإسكندرية، وسوى ما وجده من الرصاص في سرب بأسفل هذا القصر ينتهي بمن يمشي فيه إلى قريب البحر، وسوى ما أنعم به عليه من الرصاص الموجود بالخليج، ولم يزل الخليج فيه الماء طول السنة إلى ما بعد سنة سبعين وسبعمائة، فانقطع الماء منه وصار الماء لا يدخل إليه إلا في أيام زيادة ماء النيل فقط ثم يجف عند نقصه فتلف من أجل هذا أكثر بساتين الإسكندرية وخربت وتلاشى كثير من القرى التي كانت على هذا الخليج.
وسبب انقطاع الماء عنه غلبة الروم على الأشتوم الذي كان يعبر منه ماء بحر الملح إلى بحيرة الإسكندرية حتى جفت، وصار الرمل تلقيه الرياح في الخليج فانطمّ منه وعلا قاعه، وقصد من أدركناه من ملوك مصر حفر هذا الخليج غير مرّة، فلم يتهيأ ذلك إلى أن كانت سلطنة الملك الأشرف، برسباي، فندب لحفره الأمير جرباش الكريمي المعروف بعاشق، فتوجه إليه وجمع له من قدر عليه من رجال النواحي فبلغت عدّتهم ثمانمائة وخمسة وسبعين رجلا ابتدؤوا في حفره من حادي عشر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى حادي عشر شعبان لتمام تسعين يوما، فانتهى عملهم، ومشى الماء في الخليج، حتى انتهى إلى حدّه من مدينة الإسكندرية، وجرت فيه السفن، فسرّ الناس به سرورا كبيرا وجبى ما أنفق على العمال في الحفر من أرباب النواحي التي على الخليج، ومن أرباب البساتين بالإسكندرية، ولم يكن في حفره كبير شناعة مما جرت به عادة الولاة في مثل ذلك، ولله الحمد، وعند ما انتهى قدم الأمير جرباش إلى قلعة الجبل، فخلع السلطان عليه وشكره، ثم عمله حاجب الحجاب، فلم يستمرّ ذلك إلا قليلا حتى انطمّ بالرمل وتعذر سلوك الخليج بالمراكب إلا في أيام النيل فقط.
ذكر جمل حوادث الإسكندريّة
وفي سنة تسع وتسعين ومائة، عظمت الحروب بديار مصر بين المطلب بن عبد الله الخزاعيّ «١» أمير مصر، وبين عبد العزيز بن الوزير الجرويّ، الثائر بتنيس، فعقد المطلب على الإسكندرية، لمحمد بن هبيرة بن هاشم بن خديج، فاستخلف محمد خاله، عمر بن عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج، الذي يقال له: عمر بن ملاك،