وكان شادّ العمائر في المجلس فوصف ما فيه الأمراء الذين بالجب من الشدائد، فتحدّث بكتمر مع السلطان في ذلك فأمر بإخراج الأمراء منه، وردم وعمّر فوقه أطباق المماليك، وكان الذي ردم به هذا الجب، النقض الذي هدم من الإيوان الكبير المجاور للخزانة الكبرى، والله أعلم بالصواب.
[ذكر المواضع المعروفة بالصناعة]
لفظ الصناعة بكسر الصاد مأخوذ من قولك صنعه يصنعه صنعا، فهو مصنوع، وصنيع عمله واصطنعه اتخذه. والصناعة ما يستصنع من أمر، هذا أصل الكلمة من حيث اللغة، وأمّا في العرف فالصناعة اسم لمكان قد أعدّ لإنشاء المراكب البحرية التي يقال لها السفن، واحدتها سفينة، وهي بمصر على قسمين: نيلية وحربية.
فالحربية هي التي تنشأ لغزو العدوّ وتشحن بالسلاح وآلات الحرب والمقاتلة، فتمرّ من ثغر الإسكندرية وثغر دمياط وتنيس والفرما إلى جهاد أعداء الله من الروم والفرنج، وكانت هذه المراكب الحربية يقال لها الأسطول، ولا أحسب هذا اللفظ عربيا.
وأمّا المراكب النيلية فإنها تنشأ لتمرّ في النيل، صاعدة إلى أعلى الصعيد ومنحدرة إلى أسفل الأرض، لحمل الغلال وغيرها، ولما جاء الله تعالى بالإسلام لم يكن البحر يركب للغزو في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأوّل من ركب البحر في الإسلام للغزو، العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه، وكان على البحرين من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحب أن يؤثر في الأعاجم أثرا يعز الله به الإسلام على يديه، فندب أهل البحرين إلى فارس فبادروا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا، على أحدها الجارود بن المعلي رضي الله عنه، وعلى الثاني سوار بن همام رضي الله عنه، وعلى الثالث خليد بن المنذر بن ساوي رضي الله عنه، وجعل خليدا على عامة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه لا يأذن لأحد في ركوب البحر غازيا، كراهة للتغرير بجنده، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبي بكر رضي الله عنه، فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في اصطخر وبإزائهم أهل فارس عليهم الهربذ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فقال: أما بعد، فإنّ الله تعالى إذا قضى أمرا جرت المقادير على مطيته، وأنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم، وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض بعد الآن لمن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلّا على الخاشعين. فأجابوه إلى القتال وصلوا الظهر، ثم ناهزوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع يدعى طاوس، فقتل من أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قبلها، وخرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ولم يجدوا في الرجوع إلى البحر سبيلا، فإذا بهم وقد أخذت عليهم الطرق، فعسكروا وامتنعوا، وبلغ ذلك