واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظنّ لا يبعد عن الظنّ كثيرا ولا ينتهى في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبو إلّا ما قدّمناه ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلّا من رحم ربك.
[ذكر المدارس]
قال ابن سيده: درس الكتاب يدرسه درسا ودراسة، ودارسه من ذلك كأنه عاوده، حتى انقاد لحفظه. وقرىء بهما وليقولوا درست ودارست ذاكرتهم، وحكى درست أي قرئت وقرىء درست أي هذه أخبار قد عفت وانمحت، ودرّست أشدّ مبالغة، والدراس المدارسة، وقال ابن جني: ودرسته إياه وأدرسته، ومن الشاذ قراءة ابن حيوة، وبما كنتم تدرسون، والمدارس الموضع الذي يدرس فيه، وقد ذكر الواقديّ أن عبد الله ابن أمّ مكتوم قدم مهاجرا إلى المدينة مع مصعب بن عمير رضي الله عنهما، وقيل قدم بعد بدر بيسير، فنزل دار القرّاء، ولما أراد الخليفة المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق بالله أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله جعفر بناء قصره في الشماسية ببغداد، استزاد في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد، فسئل عن ذلك فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كلّ صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية، ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره فيأخذ عنه.
والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأوّل من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبنيت بها بالمدرسة البيهقية، وبنى بها أيضا الأمير نصر بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أخو السلطان محمود بن سبكتكين مدرسة، وبنى بها أيضا المدرسة السعيدية، وبنى بها أيضا مدرسة رابعة، وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد، لأنّها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم، وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي عليّ الحسن بن عليّ بن إسحاق بن العباس الطوسيّ، وزير ملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن سلجوق في مدينة بغداد، وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة، ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازيّ الفيروزآبادي، صاحب كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعيّ رضي الله عنه ورحمه، فاقتدى الناس به من حينئذ في بلاد العراق وخراسان وما وراء النهر وفي بلاد الجزيرة وديار بكر. وأمّا مصر فإنها كانت حينئذ بيد الخلفاء الفاطميين، ومذهبهم مخالف لهذه الطريقة، وإنما هم شيعة إسماعيلية كما تقدّم، وأوّل ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر، في خلافة العزيز بالله نزار بن المعز،