واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلوّ اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا، تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم سنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستبشاع ظلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى، فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهديّ، عنده حقيقة الدين إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار، إذ نسبوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكفر، وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوّة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكنديّ، قبل أن يصير خارجيا صفريا، وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميريّ اليهوديّ الإسلام ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، واحرق عليّ رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة.
والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سرّ تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمّ على شيء من الشريعة، كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده صلّى الله عليه وسلّم سرّ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلها إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمّة، وأصل كلّ بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأوّل، حتى بالغ القدريّ في القدر فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبريّ في مقابلته فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزليّ في التخليد في العذاب، وبالغ الناصبيّ في دفع عليّ رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السنيّ في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضيّ في تأخيره حتى كفره، وميدان الظنّ واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشرّ والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية، وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا