السلطان له هذه المناصحة، ولما أخرج الأمير عز الدين أيدمر الدوادار من وظيفته، رتّب أرسلان في الدوادارية، وكان يكتب خطا مليحا، ودرّبه القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر وخرّجه، وهذبه، فصار يكتب بخطه إلى كتاب السرّ عن السلطان في المهمات بعبارة مسدّدة وافية بالمقصود، واستولى على السلطان بحيث لم يكن لغيره في أيامه ذكر، ولم يشتهر فخر الدين وكريم الدين بعظمة إلّا بعده، واجتهدا في إبعاده فما قدرا على ذلك، وفي أيام توليته الدوادارية السلطانية أنشأ هذه الخانكاه على شاطيء النيل، وكان ينزل في كل ليلة ثلاثاء إليها من القلعة ويبيت بها، ويحتفل الناس للحضور إليها، ويرسل عن السلطان إلى مهنا أمير العرب، ونفع الناس نفعا كبيرا وقلدهم مننا جسيمة، ومات في ثالث عشري شهر رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة، فوجد في تركته ألف ثوب أطلس، ونفائس كثيرة، وعدّة تواقيع ومناشير معلمة، فأنكر السلطان معرفتها ونسب إليها اختلاسها، وأوّل من ولي مشيختها تقيّ الدين أبو البقاء محمد بن جعفر بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الحسينيّ القنائي الشافعيّ، جدّ الشيخ عبد الرحيم القنائيّ الصالح المشهور، وأبوه ضياء الدين جعفر، كان فقيها شافعيا، وكان أبو البقاء هذا عالما عارفا زاهدا قليل التكلف متقللا من الدنيا، سمع الحديث وأسمعه، وولد في سنة خمس وأربعين وستمائة، ومات ليلة الاثنين رابع عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ودفن بالقرافة، فتداول مشيختها القضاة الأخنائية إلى أن كانت آخرا بيد شيخنا قاضي القضاة صدر الدين عبد الوهاب بن أحمد الأخنائيّ. فلما مات في سنة تسع وثمانين وسبعمائة، تلقاها عنه عز الدين بن الصاحب، ثم وليها من بعده ابنه شمس الدين محمد بن الصاحب، رحمه الله.
[خانقاه بكتمر]
هذه الخانقاه بطرف القرافة في سفح الجبل مما يلي بركة الحبش، أنشأها الأمير بكتمر الساقي، وابتدأ الحضور بها في يوم الثلاثاء ثامن شهر رجب سنة ست وعشرين وسبعمائة، وأوّل من استقرّ في مشيختها الشمسيّ شمس الدين الروميّ، ورتب له عن معلوم المشيخة في كل شهر مائة درهم، وعن معلوم الإمامة مبلغ خمسين درهما، ورتب معه عشرين صوفيا لكل منهم في الشهر مبلغ ثلاثين درهما، فجاءت من أجلّ ما بني بمصر، ورتب بها صوفية وقرّاء، وقرّر لهم الطعام والخبز في كل يوم، والدراهم والحلوى والزيت والصابون في كل شهر، وبنى بجانبها حمّاما، وأنشأ هناك بستانا، فعمرت تلك الخطة وصار بها سوق كبير وعدّة سكان، وتنافس الناس في مشيختها إلى أن كانت المحن من سنة ست وثمانمائة، فبطل الطعام والخبز منها وانتقل السكان منها إلى القاهرة وغيرها، وخربت الحمام والبستان وصار يصرف لأرباب وظائفها مبلغ من نقد مصر، وأقام فيها رجل يحرسها، وتمزق ما كان فيها من الفرش والآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المكفت والقناديل الزجاج المذهب، وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية، وخرب ما حولها لخلوّه من السكان.