صار جامعها القديم ودورها في برّ الجيزة، وغلب البحر عليها، وهذه المنية من محاسن منتزهات القاهرة، وكانت قد كثرت العمائر بها واتخذها الناس منزل قصف ودار لعب ولهو ومغنى صبابات، وبها كان يعمل عيد الشهيد الذي تقدّم ذكره عند ذكر النيل من هذا الكتاب، لقربها من ناحية شبرا، وبها سوق في كل يوم أحد يباع فيه البقر والغنم والغلال، وهو من أسواق مصر المشهورة، وأكثر من كان يسكن بها النصارى، وكانت تعرف بعصر الخمر وبيعه، حتى أنه لما عظمت زيادة ماء النيل في سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وكانت الغرقة المشهورة وغرقت شبرا والمنية، تلف فيها من جرار الخمر ما ينيف على ثمانين ألف جرّة مملوءة بالخمر، وباع نصرانيّ واحد مرّة في يوم عيد الشهيد بها خمرا باثني عشر ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الستمائة دينار، وكسر منها الأمير بلبغا السالميّ في صفر سنة ثلاث وثمانمائة ما ينيف على أربعين ألف جرّة مملوءة بالخمر.
وما برحت تغرق في الأنيال العالية إلى أن عمل الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة الجسر من بولاق إلى المنية، كما ذكر عند ذكر الجسور من هذا الكتاب. فأمن أهلها من الغرق، وأدركناها عامرة بكثرة المساكن والناس والأسواق والمناظر، وتقصد للنزهة بها أيام النيل والربيع، لا سيما في يومي الجمعة والأحد، فإنه كان للناس بها في هذين اليومين مجتمع ينفق فيه مال كثير، ثم لما حدثت المحن من سنة ست وثمانمائة، الحّ المناسر بالهجوم عليها في الليل وقتلوا من أهلها عدّة، فارتحل الناس منها وخلت أكثر دورها، وتعطلت حتى لم يبق بها سوى طاحون واحدة لطحن القمح، بعد ما كان بها ما ينيف على ثمانين طاحونة، وبها الآن بقية وهي جارية في الديوان السلطاني المعروف بالمفرد.
[ذكر كوم الريش]
هذا اسم لبلد فيما بين أرض البعل ومنية الشيرج. كان النيل يمرّ بغربيها بعد مروره بغربيّ أرض البعل، وأدركت آثار الجروف باقية من غربيّ البعل، وغربيّ كوم الريش إلى أطراف المنية، حتى تغيرت الأحوال من بعد سنة ست وثمانمائة، ففاض ماء النيل في أيام الزيادة ونزل في الدرب الذي كان يسلك فيه من أرض الطبالة إلى المنية، فانقطع هذا الدرب وترك الناس سلوكه، وكان كوم الريش من أجلّ منتزهات القاهرة، ورغب أعيان الناس في سكناها للتنزه بها.
وأخبرني شيخنا قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم الحنفي، وخال أبي تاج الدين إسماعيل بن أحمد بن الخطباء، أنهما أدركا بكوم الريش عدّة أمراء يسكنون فيها دائما، وأنه كان من جملة من يسكن فيها دائما نحو الثمانمائة من الجند السلطاني، وأنا أدركت بها سوقا عامرا بالمعايش بأنواعها من المآكل، لا أعرف اليوم بالقاهرة مثله في كثرة