بجوار ماء، فغسلت مريم من ذلك الماء ثياب المسيح، وقد اتسخت، وصبت غسالتها بتلك الأراضي، فأنبت الله هنالك البلسان، وكان إذ ذاك بالأردن، فانقطع من هناك، وبقي بهذه الأرض، وغمرت هذه البئر التي هي الآن موجودة هناك على ذلك الماء الذي غسلت منه مريم، وبلغني أنها إلى الآن إذا اعتبرت يوجد ماؤها عينا جارية في أسفلها، فهذا سبب تعظيم النصارى لهذه البئر وللبلسان، فإنه إنما سقي منها، والله أعلم.
المنصورة «١»
هذه البلدة على رأس بحر أشموم تجاه ناحية طلخا «٢» بناها: السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، في سنة ست عشرة وستمائة عند ما ملك الفرنج، مدينة دمياط، فنزل في موضع هذه البلدة، وخيم به، وبنى قصرا لسكناه، وأمر من معه من الأمراء والعساكر بالبناء، فبنى هناك عدّة دور ونصبت الأسواق وأدار عليها سورا مما يلي البحر، وستره بالآلات الحربية والستائر، وتسمى هذه المنزلة المنصورة، ولم يزل بها حتى استرجع مدينة دمياط، كما تقدّم ذكره عند ذكر مدينة دمياط من كتابنا هذا، فصارت مدينة كبيرة بها الحمامات والفنادق والأسواق، ولما استنقذ الملك الكامل دمياط من الفرنج، ورحل الفرنج إلى بلادهم جلس بقصره في المنصورة وبين يديه إخوته الملك المعظم عيسى صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى صاحب بلاد الشرق وغيرهما من أهله، وخواصه، فأمر الملك الأشرف جاريته، فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا وقومه ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ... فأغرقهم في اليم بعضا على بعض
فطرب الأشرف، وقال لها: بالله كرّري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأسكتها، وقال لجاريته: غني أنت فأخذت العود، وغنت:
أيا أهل دين الكفرة قوموا لتنظروا ... لما قد جرى في وقتنا وتجدّدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعا ينصران محمدا
وهذا البيت من قصيدة لشرف الدين بن حبارة أوّلها:(أبى الوجد إلا أن أبيت مسهدا) فأعجب ذلك الملك الكامل، وأمر لكل من الجاريتين، بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الصدر الأجل الرئيس هبة الله بن محاسن قاضي غزة وكان من جملة الجلساء على قدميه وأنشد يقول: