للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقع فيه، واستعاذ بالله من قول أنا، ولا حضر قط سماعا، ولا أنكر على من يحضره، وكان سلوكه صلاحا من غير إصلاح، ويبالغ في الترفع على أبناء الدنيا، ويترامى على الفقراء، ويقدّم لهم الأكل، ولم يقدّم لغنيّ أكلا البتة، وإذا اجتمع عنده الناس، قدّم الفقير على الغنيّ، وإذا مضى الفقير من عنده سار معه، وشيعه عدّة خطوات، وهو حاف بغير نعل ووقف على قدميه ينظره حتى يتوارى عنه، ومن كان من الفقراء يشار إليه بمشيخة، جلس بين يديه بأدب مع إمامته وتقدّمه في الطريق، ويقول: ما أقول لأحد افعل أو لا تفعل، من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله، فإنّ من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه.

وقال له شخص من خواصه: يا سيدي ادع الله لنا أن يفتح علينا، فنحن فقراء، فقال:

إن أردتم فتح الله، فلا تبقوا في البيت شيئا، ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك، فقد جاء لا تسأل الله، ولك خاتم من حديد، ومن كلامه: الفقير بحال البكر، إذا سأل زالت بكارته، وسأله بعض خواصه: أن يدعو له بسعة، وشكا له الضيق، فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل.

وكان مع اشتغاله بالعبادة واستغراق أوقاته فيها، لا يغفل عن صاحبه، ولا ينسى حاجته حتى يقضيها، ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم، ويعرف أحوال الناس على طبقاتهم، ويعظم العلم ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل، ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يملّ، ولا يتبرّم بكثرة ذلك، ويكثر من الإيثار في السرّ، ولا يمسك لنفسه شيئا، ويستقلّ ما منه مع كثرة إحسانه، ويستكثر ما يدفع إليه وإن كان يسيرا، ويكافىء عليه بأحسن منه، ولم يصحب قط، أميرا ولا وزيرا بل كان في سلوكه وطريقه يرفع في تواضع ويعزز مع مسكنة، وقرب في ابتعاد، واتصال في انفصال، وزهد في الدنيا، وأهلها، وكان أكبر من خبره، ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء: اللهم بعّدنا عن الدنيا وأهلها، وبعّدها عنا، وما زال على ذلك إلى أن مات آخر ليلة أسفر صباحها عن الثامن من شهر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وستمائة، وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة، وعليه مبلغ ألفي درهم دينا، ودفن بجوار الجامع، وقبره يزار إلى يومنا هذا.

ذكر شطا «١»

شطا: مدينة عند تنيس ودمياط، وإليها تنسب الثياب الشطوية، ويقال: إنها عرفت بشطا بن الهاموك، وكان أبوه خال المقوقس، وكان على دمياط، فلما فتح الله الحصن على يد عمرو بن العاص، واستولى على أرض مصر، جهز بعثا لفتح دمياط، فنازلوها إلى أن

<<  <  ج: ص:  >  >>