للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التجريد، وسقى بها الماء في الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا، ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة، وترك الناس جميعا، ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس، وهي خراب نحو سبع سنين، ورمّ مسجدها، ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط، وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدا إلا إذا أقيمت الصلاة، خرج وصلى فإذا سلّم الإمام، عاد إلى وكره، فإن عارضه أحد بحديث كلّمه، وهو قائم بعد انصرافه من الصلاة، وكانت حاله أبدا اتصالا في انفصال، وقربا في ابتعاد، وأنسا في نفار، وحج فكان يفارق أصحابه عند الرحيل، فلا يرونه إلا وقت النزول، ويكون سيره منفردا عنهم لا يكلم أحدا إلى أن عاد إلى دمياط، فأخذ في ترميم الجامع، وتنظيفه بنفسه، حتى نقي ما كان فيه من الوطواط بسقوفه، وساق الماء إلى صهاريجه، وبلط صحنه وسبك سطحه بالجبس، وأقام فيه.

وكان قبل ذلك من حين خربت دمياط، لا يفتح إلا في يوم الجمعة فقط، فرتب فيه إماما راتبا يصلي الخمس، وسكن في بيت الخطابة، وواظب على إقامة الأوراد به، وجعل فيه قرّاء يتلون القرآن بكرة وأصيلا وقرّر فيه رجلا يقرأ ميعادا يذكر الناس ويعلمهم، وكان يقول: لو علمت بدمياط مكانا أفضل من الجامع لأقمت به، ولو علمت في الأرض بلدا يكون فيه الفقير، أخمل من دمياط لرحلت إليه، وأقمت به، وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء، ولا يجد ما يطعمه باع، من لباسه ما يضيفه به، وكان يبيت ويصبح، وليس له معلوم، ولا ما يقع عليه العين، أو تسمعه الأذن، وكان يؤثر في السرّ الفقراء والأرامل، ولا يسأل أحدا شيئا، ولا يقبل غالبا، وإذا قبل ما يفتح الله عليه آثر به، وكان يبذل جهده في كتم حاله، والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك، وعرفت له عدّة كرامات، وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة، وترك الدعاوي واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله، وأفعاله، وكان لا يرافق أحدا في الليل، ولا يعلم أحد يوم صومه من يوم فطره، ويجعل دائما قول إن شاء الله تعالى، مكان قول غيره، والله.

ثم إنّ الشيخ عبد العزيز الدميريّ، أشار عليه بالنكاح وقال له: النكاح من السنة، فتزوّج في آخر عمره بامرأتين ولم يدخل على واحدة منهما نهارا البتة، ولا أكل عندهما، ولا شرب قط، وكان ليله ظرفا للعبادة، لكنه يأتي إليهما أحيانا، وينقطع أحيانا لاستغراق زمنه كله في القيام بوظائف العبادات وإيثار الخلوة، وكان خواص خدمه لا يعلمون بصومه من فطره، وإنما يحمل إليه ما يأكل، ويوضع عنه بالخلوة، فلا يرى قط آكلا، وكان يحب الفقر، ويؤثر حال المسكنة، ويتطارح على الخمول والجفا ويتواضع مع الفقراء، ويتعاظم على العظماء والأغنياء، وكان يقرأ في المصحف، ويطالع الكتب، ولم يره أحد يخط بيده شيئا، وكانت تلاوته للقرآن بخشوع وتدبر، ولم يعمل له سجادة قط، ولا أخذ على أحد عهدا، ولا لبس طاقية، ولا قال أنا شيخ، ولا أنا فقير، ومتى قال في كلامه: إنا تفطّن لما

<<  <  ج: ص:  >  >>