بجمعة هرقل، وتقدّم هرقل بعمارة الكنائس والديارات وأنفق فيها مالا كبيرا. وفي أيامه أقيم ادراسلون بطرك اليعاقبة بالإسكندرية، فأقام ست سنين ومات في ثامن طوبه، فخربت الديارات في مدّة بطركيته، وأقيم بعده على اليعاقبة بنيامين، فعمر الدير الذي يقال له دير أبو بشاي، ودير سيدة أبو بشاي، وهما في وادي هبيب، فأقام تسعا وثلاثين سنة، ملك الفرس منها مصر عشر سنين، ثم قدم هرقل فقتل الفرس بمصر وأقام فيرش بطرك الإسكندرية، وكان منانيا، وطلب بنيامين ليقتله فلم يقدر عليه لفراره منه، وكان هرقل مارونيا فظفر بمينا أخي بنيامين فأحرقه بالنار عداوة لليعاقبة، وعاد إلى القسطنطينية فأظهر الله دين الإسلام في أيامه، وخرج ملك مصر والشام من يد النصارى، وصار النصارى ذمّة للمسلمين، فكانت مدّة النصارى منذ رفع المسيح إلى أن فتحت مصر وصار النصارى من القبط ذمّة للمسلمين ... «١» منها مدّة كونهم تحت أيدي الروم يقتلونهم أبرح قتل بالصلب والتحريق بالنار والرجم بالحجارة وتقطيع الأعضاء ... «٢» ومنها مدّة استيلائهم بتنصر الملوك.
ذكر دخول النصارى من قبط مصر في طاعة المسلمين وأدائهم الجزية، واتخاذهم ذمّة لهم، وما كان في ذلك من الحوادث والأنباء
اعلم أن أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم وعقائدهم، أحدهما أهل الدولة وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم، ورأيهم وديانتهم بأجمعهم ديانة الملكية، وكانت عدّتهم تزيد على ثلاثمائة ألف روميّ. والقسم الآخر عامّة أهل مصر، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة لا يكاد يتميز منهم القبطيّ من الحبشيّ من النوبيّ من الإسرائيليّ الأصل من غيره، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتاب المملكة ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العداوة ما يمنع مناكحتهم، ويوجب قتل بعضهم بعضا، ويبلغ عددهم عشرات آلاف كثيرة جدّا، فإنهم في الحقيقة أهل أرض مصر أعلاها وأسفلها، فلما قدم عمرو بن العاص بجيوش المسلمين معه إلى مصر، قاتلهم الروم حماية لملكهم ودفعا لهم عن بلادهم، فقاتلهم المسلمون وغلبوهم على الحصن كما تقدّم ذكره، فطلب القبط من عمرو المصالحة على الجزية فصالحهم عليها وأقرّهم على ما بأيديهم من الأراضي وغيرها، وصاروا معه عونا للمسلمين على الروم، حتى هزمهم الله تعالى وأخرجهم من أرض مصر، وكتب عمرو لبنيامين بطرك اليعاقبة أمانا في سنة عشرين من الهجرة، فسرّه ذلك وقدم على