في أيامه أرض مصر، ونقص الزرع وأجدبت النواحي لانهماكه في ضلاله وظلمه وإقباله على لهوه ولعبه، وإنّ الناس اقتدوا به ففشا ظلم بعضهم لبعض، وإنه لما أقبل الطوفان، وسحت الأمطار، قام سكران يريد الهرب إلى الهرم، فتخلخلت الأرض به، وطلب الأبواب فخانته رجلاه وسقط يخور، حتى هلك، وهلك من دخل الأسراب بالغم، والله تعالى أعلم.
[ذكر مدينة منف وملوكها]
هذه المدينة كانت في غربيّ النيل على مسافة اثني عشر ميلا من مدينة فسطاط مصر، وهي أوّل مدينة عمرت بأرض مصر بعد الطوفان، وصارت دار المملكة بعد مدينة أمسوس التي تقدّم ذكرها، إلى أن أخربها بخت نصر، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله:
[القصص/ ١٥] . قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ في كتاب جامع البيان في تفسير القرآن، عن السديّ: أنّه قال: كان موسى عليه السلام حين كبر يركب، كمراكب فرعون، ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى:
ابن فرعون، ثم إنّ فرعون ركب مركبا، وليس عنده موسى، فلما جاء موسى عليه السلام قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في إثره فأدركه المقيل في أرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها وليس في طرقها أحد، وهي التي يقول الله جلّ ذكره: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها
[القصص/ ١٥] .
قال ابن عبد الحكم، عن عبد الله بن لهيعة: أوّل من سكن بمصر بعد أن أغرق الله قوم نوح عليه السلام، بيصر بن حام بن نوح، فسكن منف، وهي أوّل مدينة عمرت بعد الطوفان هو وولده، وهم ثلاثون نفسا منهم أربعة أولاد قد بلغوا وتزوّجوا، وهم: مصر وفارق وماج وياج وبنو بيصر، وكان مصر أكبرهم، فبذلك سميت: مافه، ومافه بلسان القبط ثلاثون، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم، ونقروا هناك منازل كثيرة. وقال ابن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك: ومدينة منف هي (مدينة فرعون) التي كان ينزلها، واتخذ لها سبعين بابا من حديد، وجعل حيطان المدينة من الحديد والصفر، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره، وهي أربعة، ويروى أنّ مدينة منف كانت قناطر وجسورا بتدبير، وتقدير حتى أنّ الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها، فيحبسونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى حكاية عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ
[الزخرف/ ٥١] ، وكان بها كثير من الأصنام لم تزل قائمة إلى أن سقطت فيما سقط من الأصنام في الساعة التي أشار فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام، يوم فتح مكة بقضيب في يده، وهو يطوف حولها، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً
[الإسراء/ ٨١] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، وفي تلك الساعة سقطت أصنام الأرض من الشرق