اعلم أنه كان في النيل جسر من سفن فيما بين الفسطاط والجزيرة التي تعرف اليوم:
بالروضة، وكان فيما بين الجزيرة، والجيزة أيضا جسر في كل جسر منهما ثلاثون سفينة.
[ذكر ما قيل في ماء النيل من مدح وذم]
قال الرئيس أبو عليّ ابن سينا عفا الله عنه، وقوم يفرطون في مدح النيل إفراطا شديدا، ويجمعون محامده في أربعة: بعد منبعه، وطيب مسلكه، وغمورته، وأخذه إلى الشمال عن الجنوب. فأخذه إلى الشمال عن الجنوب: ملطف لما يجري فيه من المياه، وأما غمورته فيشاركه فيها غيره. قال: فأفضل المياه مياه العيون، ولا كل العيون ولكن مياه العيون الحرّة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية لكن التي هي من طينة حرّة خير من الحجرية، ولا كل عين حرّة، بل التي هي مع ذلك جارية، ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس، والرياح وإنّ هذا مما يكسب الجارية فضيلة. وأما الراكدة فربما اكتسب بالكشف رداءة لا تكسبها بالغور والستر.
واعلم أنّ المياه التي تكون طيبة المسيل خير من التي تجري على الأحجار، فإنّ الطين ينقي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروّقه، والحجارة لا تفعل ذلك. لكنه يجب أن يكون طين مسيله حرّا لا حمأة، ولا سبخة، ولا غير ذلك. فإن اتفق أن كان هذا الماء غمرا شديد الجرية يحيل بكثرة ما يخالطه إلى طبيعته. فإن كان يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق، وخصوصا إلى الصيفيّ منه، فهو أفضل لا سيّما إذا بعد جدّا من ميدانه، ثم ما يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب رديء خصوصا عند هبوب ريح الجنوب، والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضل أفضل، وما كان بهذه الصفة كان عذبا يخيل، إنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلا، وكان خفيف الوزن سريع البرد، والتسخين لتخلخله باردا في الشتاء حارا في الصيف لا يغلب عليه طعم البتة، ولا رائحة ويكون سريع الانحدار من الشراسيف سريعا لهري ما يهري فيه وطبخ ما يطبخ فيه.
قال الرئيس علاء الدين عليّ بن أبي الحرم بن نفيس في شرح القانون: هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد بل هي من الأشياء الموجبة لكونه محمودا وأحد هذه الأربعة بعد منبعه، وقد بينا أنّ ذلك يوجب لطافة الماء بسبب كثرة حركته، واعلم أن منبع النيل من جبل يقال له جبل القمر، وهذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة، فماؤه أعظم دائرة في الأرض بثلاثمائة درجة وستين، وابتداء هذا الجبل من السادسة والأربعين درجة وثلاثين دقيقة من أوّل العمارة من جهة المغرب، وآخره عند آخر