للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أباح النداء، يعني لما تم ست عشرة ذراعا، وكسر الخليج فتأمّل ما أبدع هذه السياسة؛ فإنّ الناس دائما إذا توقف النيل في أيام زيادته، أو زاد قليلا يقلقون، ويحدّثون أنفسهم بعدم طلوع النيل، فيقبضون أيديهم على الغلال، ويمتنعون من بيعها رجاء ارتفاع السعر، ويجتهد من عنده مال في خزن الغلة؛ إما لطلب السعر، أو لطلب ادّخار قوت عياله، فيحدث بهذا الغلاء. فإن زاد الماء انحلّ السعر وإلا كان الجدب والقحط ففي كتمان الزيادة عن العامّة أعظم فائدة، وأجلّ عائدة.

وقال المسبحي «١» في تاريخ مصر: وخرج أمر صاحب القصر إلى ابن حيران بتحرير ما يستفتح به القياسون كلامهم إذا نادوا على النيل، فقال: نعم لا تحصى من خزائن الله لا تفنى زاد الله في النيل المبارك كذا، ومن عادة نيل مصر إذا كان عند ابتداء زيادته اخضرّ ماؤه، فتقول عامّة أهل مصر: قد توحم النيل، ويرون أن الشرب منه حينئذ مضر. ويقال في سبب اخضراره: إنّ الوحوش سيما الفيلة ترد البطيحات التي في أعالي النيل، وتستنقع فيها مع كثرة عددها لشدّة الحرّ هناك، فيتغير ماء تلك البطيحات، فإذا وقع المطر في الجهة الجنوبية في أوقاته عندهم تكاثرت السيول حينئذ في البطيحات، فخرج ما كان فيها من الماء الذي قد تغير، ومرّ إلى مصر، وجاء عقيبه الماء الجديد، وهو الزيادة بمصر وحينئذ يكون الماء محمرّا لما يخالطه من الطين الذي تأتي به السيول فإذا تناهت زيادته غشي أرض مصر، فتصير القرى التي في الأقاليم فوق التلال والروابي، وقد أحاط بها الماء، فلا يتوصل إليها إلا في المراكب، أو من فوق الجسور الممتدّة التي يصرف عليها إذا عملت كما ينبغي ربع الخراج ليحفظ عند ذلك ماء النيل حتى ينتهي ريّ كل مكان إلى الحدّ المحتاج إليه، فإذا تكامل ريّ ناحية من النواحي قطع أهلها الجسور المحيطة بها من أمكنة معروفة عند خولة البلاد، ومشايخها في أوقات محدودة لا تتقدّم، ولا تتأخر عن أوقاتها المعتادة على حسب ما يشهد به قوانين كل ناحية من النواحي، فتروى كل جهة مما يليها مع ما يجتمع فيها من الماء المختص؛ ولولا إتقان ما هنالك من الجسور، وحفر الترع والخلجان لقل الانتفاع بماء النيل كما قد جرى في زماننا هذا. وقد حكى أنه كان يرصد لعمارة جسور أراضي مصر في كل سنة ثلث الخراج لعنايتهم في القديم بها من أجل أنه يترتب على عملها ريّ البلاد الذي به مصالح العباد، وستقف إن شاء الله تعالى عن قريب على ما كان من أعمال القدماء، ومن بعدهم في ذلك، وكان للمقياس في الدولة الفاطمية رسوم لكنس مجاري الماء خمسون دينارا في كل سنة تطلق لابن أبي الردّاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>