ولك عليّ عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين، لأنّ الله عز وجل أحياني بك مرّتين، فقال له عمرو: أين بلادك؟ قال: مصر في مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها! فقال له عمرو: تفي لي بما تقول، ولي عليك بذلك العهد والميثاق، فقال له الشماس: نعم لك والله عليّ العهد والميثاق أن أفي لك، وأن أردّك إلى أصحابك، فقال له عمرو: كم يكون مكثي في ذلك؟ قال: شهرا تنطلق معي ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا، وترجع في عشر، ولك عليّ أن أحفظك ذاهبا وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: انظرني حتى أشاور أصحابي في ذلك، فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهد عليه الشماس، وقال لهم: تقيمون عليّ حتى أرجع إليكم ولكم عليّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك على أن يصحبني رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم، فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس، حتى انتهوا إلى مصر فرأى عمرو من عمارتها، وكثرة أهلها وما بها من الأموال والخير ما أعجبه! فقال عمرو للشماس: ما رأيت مثل ذلك، ومضى إلى الإسكندرية، فنظر عمرو إلى كثرة ما فيها من الأموال والعمارة، وجودة بنائها، وكثرة أهلها، فازداد عجبا، ووافق دخول عمرو الإسكندرية عيدا فيها عظيما يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم كرة من ذهب مكالة يترامى بها ملوكهم، وهم يتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا من تلك الكرة على ما وصفها من مضى منهم، أنها من وقعت الكرة في كمه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم.
فلما قدم عمرو الإسكندرية أكرمه الشماس الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس عمرو والشماس مع الناس في ذلك المجلس، حيث يترامون بالكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوي حتى وقعت في كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرّة! أترى هذا الأعرابيّ يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا، وإنّ ذلك الشماس مشى في أهل الإسكندرية، وأعلمهم أنّ عمرا أحياه مرّتين، وأنه قد ضمن له ألفي دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا، ودفعوها إلى عمرو، فانطلق عمرو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزوّدهما وأكرمهما، حتى رجع هو وصاحبه إلى أصحابهما، فبذلك عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى منها ما علم أنها أفضل البلاد، وأكثرها أموالا، فلما رجع عمرو إلى أصحابه، دفع إليهم بيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا، قال عمرو: وكان أوّل مال اعتقدته وتأثلته.
[ذكر عمود السواري]
هذا العمود حجر أحمر منقط، وهو من الصوّان الماتع كان حوله، نحو أربعمائة عمود كسرها قراجا والي الإسكندرية في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب،