للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسروري، ثم سار بعامّة الأمراء والأجناد وباشر الحفر بنفسه، وعمل فيه الأمراء، وجميع الناس إلى أن زالت الرمال التي كانت على الساحل بين التعيدي وفم الخليج، ثم عدّى إلى بار نبار، وغرّق مراكب هناك، وبنى عليها بالحجارة، فلما تم الغرض عاد إلى قلعة الجبل، ثم تعطل استمرار جريان الماء فيه بطول السنة، وصار يحفر سريعا بعد شهرين أو نحوهما من دخول الماء إليه، واحتاج أهل الإسكندرية في طول السنة إلى الشرب من الصهاريج التي يخزن فيها الماء إلى أن كانت سنة عشر وسبعمائة، فقدم الأمير بدر الدين بكتوت الخزنداري المعروف بأمير شكار، متولي الإسكندرية إلى قلعة الجبل، وحسّن للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاون حفره، وذكر له ما في ذلك من المنافع أوّلها حمل الغلال وأصناف المتجر إلى الإسكندرية في المركب، وفي ذلك توفير للكلف وزيادة في مال الديوان، وثانيها عمارة ما على حافتي الخليج من الأراضي بإنشاء الضياع والسواقي، فينمو الخراج بهذا نموّا كثيرا، وثالثها انتفاع الناس به في عمارة بساتينهم، وشرب مائه دائما، فأعجب السلطان ذلك، وندب الأمير بدر الدين محمد بن كندعدي بن الوزيري مع بكتوت لعمله، وتقدّم إلى جميع أمراء الدولة بإخراج مباشريهم لإحضار رجال النواحي الجارية في إقطاعاتهم العمل للحفير، وكتب لولاة الأعمال بالوقوف في العمل، فاجتمع من النواحي نحو الأربعين ألف رجل، جمعت في نحو العشرين يوما، ووقع العمل في شهر رجب من السنة المذكورة وأفرد لكل أهل ناحية قطعة يحفرونها حتى كمل، فجاء قياس الحفر، من فم بحر النيل إلى ناحية شنبار، ثمانية آلاف قصبة حاكمية، ومن شنبار إلى الإسكندرية مثلها، وكان الخليج الأصليّ يدخل الماء إليه، من حدّ شنبار، فجعل فم هذا البحر يرمي عليه، وعمل عمقه، ست قصبات في عرض، ثماني قصبات، فلما انتهوا إلى حدّ الخليج الأوّل حفر أيضا على نظير الخليج المستجدّ، فصارا بحرا واحدا، وركبت عليه السدود، والقناطر، ووجد في الخليج الأوّل عند حفره من الرصاص المبنيّ تحت الصهاريج شيء كثير جدّا، فلم يتعرّض السلطان لشيء منه، وأنعم به على الأمير بكتوت، وعظمت المشقة في حفر هذا الخليج، فإنّ الذي تجاوز البحر منه غلب عليه الماء، فصارت الرجال تغطس فيه وترفع الطين من أسفله، ثم كثر الماء فركبت السواقي حتى نزحته، إلا أنّ عظيم النفع به سهل جميع ذلك، فإنّ السفن جرت فيه طول السنة، واستغنى أهل الإسكندرية عن شرب ماء الصهاريج، وبادر الناس للعمارة على جانبي الخليج، فلم يمض غير قليل حتى استجدّ عليه ما يزيد على مائة ألف فدّان زرعت بعد ما كانت سباخا، وما ينيف على ستمائة ساقية برسم القلقاس والنيلة والسمسم، وفوق الأربعين ضيعة، وأزيد من ألف غيط بالإسكندرية، وعمرت منه عدّة بلاد كثيرة، وتحوّل عالم عظيم إلى سكنى ما استجدّ عليه.

وفيه: ولما فرغ العمل في الخليج شرع الأمير بكتوت في عمل جسر من ماله، فإنّ الناس كانوا في وقت هيجان البحر يجدون مشقة عظيمة لغلبة الماء على أراضي السباخ،

<<  <  ج: ص:  >  >>