قد قرب أوانها فما انتهى الحفر حتى زاد ماء النيل وجرى فيه، فسرّ الناس به سرورا كبيرا، وانتهى عمل الجسر في أربعة أشهر.
إلا أنّ الشناعة قويت على الوزير، وبلّغ الأمراء النائب ما يقال عن منجك من كثرة جباية الأموال، فحدّثه في ذلك ومنعه، فاعتذر بأنه لم يسخر أحدا ولا استعمل الناس إلّا بالأجرة، وأن في هذا العمل للناس عدّة منافع، وما عليّ من قول أصحاب الأغراض الفاسدة، ونحو ذلك، وتمادى على ما هو عليه، فلما جرى الماء في الخليج الذي حفر تحت البيوت من موردة الحلفاء إلى بولاق، مرّت فيه المراكب بالناس للفرجة، واحتاج منجك إلى نقل خيمته من برّ الروضة إلى برّ الجيزة، وأحضر المراكب الكبار وملأها بالحجارة، وغرّق منها عشرة مراكب في البحر، وردم التراب عليها إلى أن كمل نحو ثلثي العمل، فقويت زيادة الماء وبطل العمل.
فلما كثرت الزيادة جمع منجك الحرافيش والأسرى، وردم على الجسر التراب وقوّاه، فتحامل الماء عن البرّ الغربيّ إلى البرّ الشرقيّ ومرّ من تحت الميدان السلطانيّ وزريبة قوصون إلى بولاق، فصار معظمه من هذه المواضع، وحصل الغرض بكون الماء بالقرب من القاهرة، وانتهى طول جسر منجك إلى مائتين وتسعين قصبة في عرض ثمان قصبات، وارتفاع أربع قصبات، والجسر الذي من الروضة إلى المقياس طوله مائتان وثلاثون قصبة، وعدّة ما رمي في هذا العمل من المراكب المشحونة بالحجر اثنا عشر ألف مركب سوى التراب. وغير ذلك، وكان ابتداء العمل في مستهل المحرّم وانتهاؤه في سلخ ربيع الآخر، ولم تنحصر الأموال التي جبيت بسببه، فإنه لم يبق بالقاهرة ومصر دار ولا فندق ولا حمّام ولا طاحون ولا وقف جامع أو مدرسة أو مسجد أو زاوية ولا رزقة ولا كنيسة إلّا وجبي منه، فكان الرجل الواحد يغرم العشرة دراهم، ومن خصه درهمان يحتاج إلى غرامة أمثالهما وأضعافهما، وناهيك بمال يجبى من الديار المصرية على هذا الحكم كثرة، وقد بقيت من جسر منجك هذا بقية هي معروفة اليوم في طرف الجزيرة الوسطى.
جسر الخليلي: هذا الجسر فيما بين الروضة من طرفها البحريّ وبين جزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، تجاه الخور، وكان سبب عمله أن النيل لما قوي رمى تياره على برّ القاهرة في أيام الملك الناصر محمد بن قلاون، وقام في عمل الجسر ليصير رمي التيار من جهة البرّ الغربيّ كما تقدّم ذكره، انطرد الماء عن برّ القاهرة وانكشف ما تحت الدور من منشأة المهرانيّ إلى منية الشيرج، وعمل منجك الجسر الذي مرّ ذكره ليعود الماء في طول السنة إلى برّ القاهرة، فلم يتهيأ كما كان أوّلا، وجرى في الخليج الذي احتفره تحت الدور من موردة الحلفاء بمصر إلى بولاق، وصار تجاه هذا الخليج جزيرة، والماء لا يزال ينطرد في كلّ سنة عن برّ القاهرة إلى أن استبدّ بتدبير مصر الأمير الكبير برقوق.