فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: وأيّ حساب بيني وبينه، أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره، وكتب إليه بعد البسملة: وصل كتاب الأمير أيده الله تعالى وفهمته، وكان، أسعده الله، حقيقا بحسن التخير لمثلي وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحدّه، لأني دائب في ذلك وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كلّ منعوت بغنى وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات، والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوّفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة، فهو حريّ أن يعرف له حقه ويوفر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظه ومنزلته، فعو ملت بضدّ ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن أستدعي ما استدعاه الأمير من طاعته، أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيده الله تعالى، ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة، لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله، فإنه والأمير جعفر المفوّض أيده الله تعالى، قد اقتسما الأعمال وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنه من نقض عهده أو أخفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن بيعته، وفي حلّ وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرّة وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسد لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة إذ لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحرّ من الجمر، وأمرّ من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر. والأمير أيده الله تعالى أولى من أعانني على ما أوثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف وكف الأذى والمضرّة، وأن لا يضطرّني إلى ما يعلم الله عزّ وجلّ كرهي له، أن أجعل ما قد أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة والعساكر المتضاعفة التي قد ضرّست رجالها من الحروب وجرت عليهم محن الخطوب مصر وفا إلى نقضها، فعندنا وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم، فضلا عن أن يعثروا مني على ميل، أو قيام بنصرتهم، لاشتدّت شوكتهم ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كلّ جيش أنهضه إليه، على أنه لا ناصر له إلّا لفيف البصرة وأوباش عامّتها، فكيف من يجدر كنا منيعا وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدّة له، فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع