ثم لما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، غزا المسلمون في البحر، وكان أوّل من غزا فيه معاوية بن أبي سفيان، وذلك أنه لم يزل بعثمان رضي الله عنه حتى عزم على ذلك، فأخره وقال: تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيّرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه. ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة، فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البرّ والبحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب، وكان يدعو الله تعالى أن يرزقه العافية في جنده ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، حتى إذا أراد الله عز وجلّ أن يصيبه في جنده خرج في قارب طليعته فانتهى إلى المرفأ من أرض الروم، فثار به الروم وهجموا عليه فقاتلهم فأصيب وحده، ثم قاتل الروم أصحابه فأصيبوا.
وغزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح في البحر لما أتاه قسطنطين بن هرقل سنة أربع وثلاثين في ألف مركب يريد الإسكندرية، فسار عبد الله في مائتي مركب أو تزيد شيئا وحاربه، فكانت وقعة ذات الصواري التي نصر الله تعالى فيها جنده وهزم قسطنطين وقتل جنده، وأغزى معاوية أيضا عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه في البحر، وأمره أن يتوجه إلى رودس، فسار إليها.
ونزل الروم على البرلس في سنة ثلاث وخمسين في إمارة مسلمة بن مخلد الأنصاريّ رضي الله عنه على مصر، فخرج إليهم المسلمون في البرّ والبحر، فاستشهد وردان مولى عمرو بن العاص في جمع كثير من المسلمين، وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على إفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية.
ومنها كانت غزوة صقلية في أيام زيادة الله الأوّل بن إبراهيم بن الأغلب على شيخ الفتيا أسد بن الفرات، ونزل الروم تنيس في سنة إحدى ومائة في إمارة بشر بن صفوان الكلبيّ على مصر من قبل يزيد بن عبد الملك، فاستشهد جماعة من المسلمين، وقد ذكر في أخبار الإسكندرية ودمياط وتنيس والفرما من هذا الكتاب جملة من نزلات الروم والفرنج عليها، وما كان في زمن الإنشاء، فانظره تجده إن شاء الله تعالى. وقد ذكر شيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرميّ الإشبيلي، تعليل امتناع المسلمين من ركوب البحر للغزو في أوّل الأمر فقال:
والسبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا أوّل الأمر مهرة في ثقافته وركوبه، والروم والفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه، وأحكموا الدربة بثقافته، فلما استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكرّرت ممارستهم البحر وثقافته، استحدثوا بصرا بها، فتاقت أنفسهم إلى