المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، وكان من شروط الناظر في المظالم أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة، وتثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفتي الفريقين، وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين، وهي خطة حدثت لفساد الناس، وهي كلّ حكم يعجز عنه القاضي، فينظر فيه من هو أقوى منه يدا.
وأوّل من نظر في المظالم من الخلفاء، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وأوّل من أفرد للظلامات يوما يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة النظر، عبد الملك بن مروان، فكان إذا وقف منها على مشكل، واحتاج فيها إلى حكم ينفذ، ردّه إلى قاضيه ابن إدريس الأزديّ، فينفذ فيه أحكامه. وكان ابن إدريس هو المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم زاد الجور، فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم فردّها، ثم جلس لها خلفاء بني العباس، وأوّل من جلس منهم المهديّ محمد، ثم الهادي موسى، ثم الرشيد هارون، ثم المأمون عبد الله، وآخر من جلس منهم المهتديّ بالله محمد بن الواثق، وأوّل من أعلم أنه جلس بمصر من الأمراء للنظر في المظالم، الأمير أبو العباس أحمد بن طولون، فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع، فلما مات وقام من بعده ابنه أبو الجيش خمارويه، جعل على المظالم بمصر محمد بن عبيدة بن حرب، في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، ثم جلس لذلك الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيديّ، وابتدأ ذلك في سنة أربعين وثلاثمائة وهو يومئذ خليفة الأمير أبي القاسم أونوجور بن الإخشيد، فعقد مجلسا صار يجلس فيه كلّ يوم سبت، ويحضر عنده الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات، وسائر القضاة والفقهاء والشهود، ووجوه البلد، وما برح على ذلك مدّة أيامه بمصر إلى أن مات، فلم ينتظم أمر مصر بعده إلى أن قدم القائد أبو الحسين جوهر بجيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ، فكان يجلس للنظر في المظالم ويوقع على رقاع المتظلمين، فمن توقيعاته بخطه على قصة رفعت إليه، سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام، وكفر الأنعام أخركم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاجتناب، لأنكم بدأتم فأسأتم، وعدتم فتعدّيتم، فابتداؤكم ملوم وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة تقتضي إلّا الذم لكم والإعراض عنكم، ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم.
ولما قدم المعز لدين الله، إلى مصر وصارت دار خلافة، استقرّ النظر في المظالم، مدّة يضاف إلى قاضي القضاة، وتارة ينفرد بالنظر فيه أحد عظماء الدولة، فلما ضعف جانب المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر، وكانت الشدّة العظمى بمصر، قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وولي الوزارة، فصار أمر الدولة كله راجعا إليه، واقتدى به من بعده من الوزراء، وكان الرسم في ذلك أن الوزير صاحب السيف يجلس للمظالم بنفسه، ويجلس