وعشرة آلاف مشعل مضرمة بالنيران، وفرّقت فيها. ونزل مري بجموع الفرنج على بركة الحبش، فلما رأى دخان الحريق تحوّل من بركة الحبش ونزل على القاهرة مما يلي باب البرقية، وقاتل أهل القاهرة وقد انحشر الناس فيها، واستمرّت النار في مصر أربعة وخمسين يوما، والنهابة تهدم ما بها من المباني وتحفر لأخذ الخبايا إلى أن بلغ مري قدوم أسد الدين شيركوه بعسكر من جهة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فرحل في سابع شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وتراجع المصريون شيئا بعد شيء إلى مصر، وتشعث الجامع، فلما استبدّ السلطان صلاح الدين بمملكة مصر بعد موت العاضد، جدّد الجامع العتيق بمصر في سنة ثمان وستين وخمسمائة، وأعاد صدر الجامع والمحراب الكبير ورخمه ورسم عليه اسمه، وجعل في سقاية قاعة الخطابة قصبة إلى السطح، يرتفق بها أهل السطح، وعمر المنظرة التي تحت المئذنة الكبيرة، وجعل لها سقاية، وعمر في كنف دار عمرو الصغرى البحريّ مما يلي الغربيّ، قصبة أخرى إلى محاذاة السطح، وجعل لها ممشاة من السطح إليها يرتفق بها أهل السطح، وعمر غرفة الساعات وحرّرت، فلم تزل مستمرّة إلى أثناء أيام الملك المعز عز الدين أيبك التركمانيّ، أوّل من ملك من المماليك، وجدّد بياض الجامع وأزال شعثه، وجلى عمده، وأصلح رخامه، حتى صار جميعه مفروشا بالرخام وليس في سائر أرضه شيء بغير رخام حتى تحت الحصر.
ولما تقلد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين محمود بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائي الشافعيّ، قضاء القضاة بالديار المصرية، ونظر الأحباس في ولايته الثانية أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البند قداريّ، كشف الجامع بنفسه، فوجد مؤخره قد مال إلى بحريه، ووجد سوره البحريّ قد مال وانقلب علوه عن سمت سفله، ورأى في سطح الجامع غرفا كثيرة محدثة، وبعضها مزخرف، فهدم الجميع ولم يدع بالسطح سوى غرفة المؤذنين القديمة وثلاث خزائن لرؤساء المؤذنين لا غير، وجمع أرباب الخبرة فاتفق الرأي على إبطال جريان الماء إلى فوّارة الفسقية، وكان الماء يصل إليها من بحر النيل، فأمر بإبطاله لما كان فيه من الضرر على جدر الجامع، وعمر بغلات بالزيادة البحرية تشدّ جدار الجامع البحريّ، وزاد في عمد الزيادة ما قوّى به البغلات المذكورة، وسدّ شباكين كانا في الجدار المذكور ليتقوّى بذلك، وأنفق المصروف على ذلك من مال الأحباس، وخشي أن يتداعى الجامع كله إلى السقوط، فحدّث الصاحب الوزير بهاء الدين عليّ بن محمد بن سليم بن حنا في مفاوضة السلطان في عمارة ذلك من بيت المال، فاجتمعا معا بالسلطان الملك الظاهر بيبرس وسألاه في ذلك، فرسم بعمارة الجامع، فهدم الجدار البحريّ من مقدّم الجامع، وهو الجدار الذي فيه اللوح الأخضر، وحط اللوح وأزيلت العمد والقواصر العشر، وعمر الجدار المذكور وأعيدت العمد والقواصر كما كانت، وزيد في العمد أربعة قرن، بها أربعة مما هو تحت اللوح الأخضر، والصف الثاني منه،