قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق. فقد ظهر ما يلزم من القول بعموم هذا الحديث من خروج أهل المشرق الساكنين به، وأهل المغرب أيضا عن التوجه إلى الكعبة في الصلاة عينا وجهة، لأنّ من كان مسكنه من البلاد ما هو في أقصى المشرق من الكعبة، لو جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه لكان إنما يستقبل حينئذ جنوب أرضه ولم يستقبل قط عين الكعبة ولا جهتها، فوجب ولا بدّ حمل الحديث على أنه خاص بأهل المدينة والشام، وما على سمت ذلك من البلاد، بدليل أن المدينة النبوية واقعة بين مكة وبين أوسط الشام على خط مستقيم، والجانب الغربيّ من بلاد الشام التي هي أرض المقدس وفلسطين يكون عن يمين من يستقبل بالمدينة الكعبة، والجانب الشرقيّ الذي هو حمص وحلب وماو إلى ذلك واقع عن يسار من استقبل الكعبة بالمدينة، والمدينة واقعة في أواسط جهة الشام على جهة مستقيمة، بحيث لو خرج خط من الكعبة ومرّ على استقامة إلى المدينة النبوية لنفذ منها إلى أوسط جهة الشام سواء، وكذلك لو خرج خط من مصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوجه على استقامة، لوقع فيما بين الميزاب من الكعبة وبين الركن الشاميّ، فلو فرضنا أن هذا الخط خرق الموضع الذي وقع فيه من الكعبة ومرّ لنفذ إلى بيت المقدس على استواء من غير ميل ولا انحراف البتة، وصار موقع هذا الخط فيما بين نكباء الشمال والدبور، وبين القطب الشمالي. وهو إلى القطب الشماليّ أقرب وأميل، ومقابلته ما بين أوسط الجنوب ونكباء الصبا والجنوب، وهو إلى الجنوب أقرب، والمدينة النبوية، مشرّقة عن هذا السمت، ومغرّبة عن سمت الجانب الآخر من بلاد الشام، وهو الجانب الغربيّ تغريبا يسيرا، فمن يستقبل مكة بالمدينة يصير المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، وما بينهما فهو قبلته، وتكون حينئذ الشام بأسرها وجملة بلادها خلفه، فالمدينة على هذا في أوسط جهات البلاد الشامية.
ويشهد بصدق ذلك ما رويناه من طريق مسلم رحمه الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رقيت على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعدا لحاجته، مستقبل الشام مستدبر القبلة، وله أيضا من حديث ابن عمر بينا الناس في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستدار إلى الكعبة.
فهذا أعزك الله أوضح دليل أنّ المدينة بين مكة والشام على حدّ واحد، وأنها في أوسط جهة بلاد الشام، فمن استقبل بالمدينة الكعبة فقد استدبر الشام، ومن استدبر بالمدينة الكعبة فقد استقبل الشام، ويكون حينئذ الجانب الغربيّ من بلاد الشام وما على سمته من البلاد جهة القبلة عندهم أن يجعل الواقف مشرق الصيف عن يساره، ومغرب الشتاء عن يمينه، فيكون ما بين ذلك قبلته. وتكون قبلة الجانب الشرقي من بلاد الشام وما على سمت ذلك من