البلاد لها حكم بلاد الشام، وذلك أن بلاد مصر التي في الساحل كثيرة الشبه ببلاد الشام في كثرة أمطارها وشدّة بردها، وحسن فواكهها، فاستطرد الشبه حتى في المحاريب ووضعها على سمت المحاريب الشامية، فجاء شيئا خطأ، وبيان ذلك أن هذه البلاد ليست بشمالية عن الشام حتى يكون حكمها في استقبال الكعبة كالحكم في البلاد الشامية، بل هي مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بعدّة أيام، وسمتاهما مختلفان في استقبال الكعبة، لاختلاف القطرين، فإن الجانب الغربيّ من الشام كما تقدّم يقابل ميزاب الكعبة على خط مستقيم، وهو حيث مهب النكباء التي بين الشمال والدبور «١» ، ووسط الشام كدمشق وما والاها شمال مكة من غير ميل، وهم يستقبلون أوسط الجنوب في صلاتهم، بحيث يكون القطب الشماليّ المسمى بالجدي وراء ظهورهم، والمدينة النبوية بين هذا الحدّ من الشام وبين مكة مشرّقة عن هذا الحدّ قليلا، فإذا كانت مصر مغرّبة عن الجانب الغربيّ من الشام بأيام عديدة، تعين ووجب أن تكون محاريبها ولا بدّ مائلة إلى جهة المرق بقدر بعد مصر وتغريبها عن أوسط الشام، وهذا أمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان، وعلى ذلك أسس الصحابة رضي الله عنهم المحاريب بدمشق وبيت المقدس مستقبلة ناحية الجنوب، وأسسوا المحاريب بمصر مستقبلة المشرق مع ميل يسير عنه إلى ناحية الجنوب، فرض- رحمه الله- نفسك في التمييز، وعوّد نظرك التأمّل، وأربأ بنفسك أن تقاد كما تقاد البهيمة بتقليدك من لا يؤمن عليه الخطأ. فقد نهجت لك السبيل في هذه المسألة، وألنت لك من القول، وقرّبت لك حتى كأنك تعاين الأقطار، وكيف موقعها من مكة. ولي هنا مزيد بيان، فيه الفرق بين إصابة العين وإصابة الجهة، وهو أن المكلف لو وقف وفرضنا أنه خرج خط مستقيم من بين عينيه ومرّ حتى اتصل بجدار الكعبة من غير ميل عنها إلى جهة من الجهات، فإنه لا بدّ أن ينكشف لبصره مدى عن يمينه وشماله، ينتهي بصره إلى غيره إن كان لا ينحرف عن مقابلته، فلو فرضنا امتداد خطين من كلا عيني الواقف، بحيث يلتقيان في باطن الرأس على زاوية مثلثة، ويتصلان بما انتهى إليه البصر من كلا الجانبين، لكان ذلك شكلا مثلثا يقسمه الخط الخارج من بين العينين إلى الكعبة بنصفين، حتى يصير ذلك الشكل بين مثلثين متساويين، فالخط الخارج من بين عيني مستقبل الكعبة الذي فرق بين الزاويتين، هو مقابلة العين التي اشترط الشافعيّ رحمه الله وجوب استقباله من الكعبة عند الصلاة، ومنتهى ما يكشف بصر المستقبل من الجانبين، هو حدّ مقابلة الجهة التي قال جماعة من علماء الشريعة بصحة استقباله في الصلاة، والخطان الخارجان من العينين إلى طرفيه هما آخر الجهة من اليمين والشمال، فمهما وقعت صلاة المستقبل على الخط الفاصل بين الزاويتين، كان قد استقبل عين الكعبة، ومهما وقعت صلاته منحرفة عن يمين الخط أو يساره بحيث لا يخرج استقباله عن منتهى حدّ الزاويتين المحدودتين بما يكشف بصره من الجانبين، فإنه مستقبل جهة الكعبة، وإن خرج