الربيع بن سليمان ليكتبوا العلم، مع كلّ واحد منهم ورّاق وعدّة غلمان. وبلغت النفقة على هذا الجامع في بنائه مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. ويقال أنّ أحمد بن طولون رأى في منامه كأنّ الله تعالى قد تجلّى ووقع نوره على المدينة التي حول الجامع، إلّا الجامع فإنه لم يقع عليه من النور شيء، فتألم وقال: والله ما بنيته إلّا لله خالصا، ومن المال الحلال الذي لا شبهة فيه. فقال له معبّر حاذق: هذا الجامع يبقى ويخرب كل ما حوله، لأنّ الله تعالى قال: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا
[الأعراف/ ١٤٣] فكل شيء يقع عليه جلال الله عز وجل لا يثبت. وقد صحّ تعبير هذه الرؤيا، فإن جميع ما حول الجامع خرب دهرا طويلا، كما تقدّم في موضعه من هذا الكتاب، وبقي الجامع عامرا، ثم عادت العمارة لما حوله كما هي الآن.
قال القضاعيّ رحمه الله، وذكر أن السبب في بنائه، أنّ أهل مصر شكوا إليه ضيق الجامع يوم الجمعة من جنده وسودانه، فأمر بإنشاء المسجد الجامع بجبل يشكر بن جديلة من لخم، فابتدأ بنيانه في سنة ثلاث وستين ومائتين، وفرغ منه سنة خمس وستين ومائتين، وقيل أنّ أحمد بن طولون قال: أريد أن أبنى بناء، إن احترقت مصر بقي، وإن غرقت بقي.
فقيل له: يبنى بالجير والرماد والآجر الأحمر القويّ النار إلى السقف، ولا يجعل فيه أساطين رخام، فإنه لا صبر لها على النار، فبناه هذا البناء وعمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب فيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم وفيها طبيب جالس يوم الجمعة لحادث يحدث للحاضرين للصلاة، وبناه على بناء جامع سامراء، وكذلك المنارة، وعلّق فيه سلاسل النحاس المفرغة، والقناديل المحكمة، وفرشه بالحصر العبدانية والسامانية.
حديث الكنز: قال جامع السيرة: لما ورد على أحمد بن طولون كتاب المعتمد بما استدعاه من ردّ الخراج بمصر إليه، وزاده المعتمد مع ما طلب الثغور الشامية، رغب بنفسه عن المعادن ومرافقها، فأمر بتركها، وكتب بإسقاطها في سائر الأعمال، ومنع المتقبلين من الفسخ على المزارعين، وخطر الارتفاق على العمال، وكان قبل إسقاط المرافق بمصر، قد شاور عبد الله بن دسومة في ذلك، وهو يومئذ أمين على أبي أيوب متولي الخراج. فقال:
إن أمنني الأمير تكلمت بما عندي. فقال له: قد أمنك الله عز وجلّ. فقال: أيها الأمير، إنّ الدنيا والآخرة ضرّتان والحازم من لم يخلط إحداهما مع الأخرى، والمفرّط من خلط بينهما، فيتلف أعماله ويبطل سعيه، وأفعال الأمير أيّده الله الخير وتوكله توكل الزهاد، وليس مثله من ركب خطة لم يحكمها، ولو كنا نثق بالنصر دائما طول العمر، لما كان شيء عندنا آثر من التضييق على أنفسنا في العاجل بعمارة الآجل، ولكن الإنسان قصير العمر، كثير المصائب، مدفوع إلى الآفات، وترك الإنسان ما قد أمكنه وصار في يده تضييع، ولعل الذي