البحريّ، بعد ما هدم الباب وأعيد بناؤه بالحجر، وركبت المنارة فوق عقده، وأخذ الحجر لها من مدرسة الملك الأشرف خليل التي كانت تجاه قلعة الجبل، وهدمها الملك الناصر فرج بن برقوق، وقام بعمارة ذلك الأمير تاج الدين التاج الشوبكيّ والي القاهرة ومحتسبها، إلى أن تمت في جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة وثمانمائة، فلم تقم غير قليل ومالت حتى كادت تسقط، فهدمت في صفر سنة سبع وعشرين، وأعيدت. وفي شوّال منها ابتدئ بعمل الصهريج الذي بوسط الجامع، فوجد هناك آثار فسقية ماء، ووجد أيضا رمم أموات، وتمّ بناؤه في ربيع الأوّل، وعمل بأعلاه مكان مرتفع له قبة يسبل فيه الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات، فلم تفلح وماتت، ولم يكن لهذا الجامع ميضأة عندما بني، ثم عملت ميضأته حيث المدرسة الأقبغاوية إلى أن بنى الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسته المعروفة بالمدرسة الأقبغاوية هناك، وأما هذه الميضأة التي بالجامع الآن فإن الأمير بدر الدين جنكل بن البابا بناها، ثم زيد فيها بعد سنة عشر وثمانمائة ميضأة المدرسة الأقبغاوية.
وفي سنة ثمان عشرة وثمانمائة ولي نظر هذا الجامع الأمير سودوب القاضي حاجب الحجاب، فجرت في أيام نظره حوادث لم يتفق مثلها، وذلك أنه لم يزل في هذا الجامع منذ بني عدّة من الفقراء يلازمون الإقامة فيه، وبلغت عدّتهم في هذه الأيام سبعمائة وخمسين رجلا ما بين عجم وزيالعة، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكلّ طائفة رواق يعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحلق الذكر، فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الإنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البرّ من الذهب والفضة والفلوس إعانة للمجاورين فيه على عبادة الله تعالى، وكلّ قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لا سيما في المواسم. فأمر في جمادى الأولى من هذه السنة بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة فيه، وإخراج ما كان لهم فيه من صناديق وخزائن وكراسي المصاحف، زعما منه أن هذا العمل مما يثاب عليه، وما كان إلّا من أعظم الذنوب وأكثرها ضررا، فإنه حلّ بالفقراء بلاء كبير من تشتت شملهم وتعذر الأماكن عليهم، فساروا في القرى وتبذلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع أكثر ما كان فيه من تلاوة القرآن ودراسة العلم وذكر الله، ثم لم يرضه ذلك حتى زاد في التعدّي، وأشاع أن أناسا يبيتون بالجامع ويفعلون فيه منكرات، وكانت العادة قد جرت بمبيت كثير من الناس في الجامع ما بين تاجر وفقيه وجنديّ وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومنهم من لا يجد مكانا يأويه، ومنهم من يستروح بمبيته هناك خصوصا في ليالي الصيف وليالي شهر رمضان، فإنه يمتلئ صحنه وأكثر رواقاته. فلما كانت ليلة الأحد الحادي عشر من جمادى الآخرة، طرق الأمير سودوب الجامع بعد العشاء الآخرة والوقت صيف، وقبض على جماعة وضربهم في الجامع، وكان قد جاء معه من الأعوان والغلمان