جامعا كبيرا أدركت أنا بعضه ومحرابه، وكان فيه نخل كثير من نخل المقل، ومن جملة ما رأيت فيه نخلة من المقل عددت لها سبعة رؤوس مفرّعة منها، فذاك الجامع هو المعروف بجامع راشدة، وأما هذا الموجود الآن فمن عمارة الحاكم، ولم يكن في بناء الجوامع أحسن من بنائه، وقيل عمرته حظية الخليفة وكان اسمها راشدة وليس بصحيح، والأوّل هو الصحيح. وفيه الآن نخل وسدر وبئر وساقية رجل، وهو مكان خلوة وانقطاع ومحل عبادة وفراغ من تعلقات الدنيا.
قال مؤلفه: هذا وهم من ابن المتوّج في موضعين: أولهما أن راشدة عمرت هذا الجامع في زمن فتح مصر، وهذا قول لم يقله أحد من مؤرخي مصر، فهذا الكنديّ، ثم القضاعيّ، وعليهما يعوّل في معرفة خطط مصر. ومن قبلهما ابن عبد الحكم، لم يقل أحد منهم أن راشدة عمرت زمن الفتح مسجدا، ولا يعرف من هذا السلف رحمهم الله في جند من أجناد الأمصار التي فتحتها الصحابة رضي الله عنهم أنهم أقاموا خطبتين في مسجد واحد، وقد حكينا ما تقدّم عن المسبحيّ وهو مشاهد ما نقله من بناء الجامع المذكور في موضع الكنيسة بأمر الحاكم بأمر الله، وتغييره لبنائه غير مرّة، وتبعه القضاعيّ على ذلك، وقد عدّ القضاعيّ والكنديّ في كتابيهما المذكور فيهما خطط مصر ما كان بمصر من مساجد الخطبة القديمة والمحدثة، وذكرا مساجد راشدة، ولم يذكرا فيها جامعا اختطته راشدة، وذكرا هذا الدير، وعين القضاعيّ اسمه، هدم وبني في مكانه جامع راشدة، وناهيك بهما معرفة لآثار مصر وخططها.
والوهم الثاني: الاستدلال على الوهم الأوّل بمشاهدة بقايا مسجد قديم ولا أدري كيف يستدل بذلك، فمن أنكر أن يكون قد كان هناك مسجد، بل المدّعي أنه كان لراشدة مساجد، لكن كونها اختطت جامعا هذا غير صحيح. وقال ابن أبي طيّ في أخبار سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في كتابه تاريخ حلب: كانت النصارى اليعقوبية قد شرعوا في إنشاء كنيسة كانت قد اندرست لهم بظاهر مصر في الموضع المعروف براشدة، فثار قوم من المسلمين وهدموا ما بنى النصارى وأنهي إلى الحاكم ذلك، قيل له إنّ النصارى ابتدأوا بناءها، وقال النصارى إنها كانت قبل الإسلام، فأمر الحاكم الحسين بن جوهر بالنظر في حال الفريقين، فمال في الحكم مع النصارى، وتبين للحاكم ذلك، فأمر أن تبنى تلك الكنيسة مسجدا جامعا، فبنى في أسرع وقت، وهو جامع راشدة. وراشدة اسم للكنيسة، وكان بجواره كنيستان إحداهما لليعقوبية والأخرى للنسطورية، فهدمتا أيضا وبنيتا مسجدين، كان في حارة الروم بالقاهرة آدر للروم وكنيستان لهم، فهدمتا وجعلتا مسجدين أيضا، وحوّل الروم إلى الموضع المعروف بالحمراء وأسس الروم ثلاث كنائس عوضا عما هدم لهم، وهذا أيضا مصرّح بأن جامع راشدة أسسه الحاكم، وفيه وهم لكونه جعل راشدة اسما للكنيسة، وإنما راشدة اسم لقبيلة من العرب نزلوا عند الفتح هناك فعرفت تلك البقاع بخطة راشدة، وقد