أن ولي مصر عنبسة بن إسحاق بن شمر من قبل المستنصر بن المتوكل على الصلاة والخراج، فقدمها لخمس خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأقام إلى مستهل رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وصرف فكان آخر من ولي مصر من العرب، وآخر أمير صلّى بالناس في المسجد الجامع، وصار يصلّى بالناس رجل يرزق من بيت المال، وكذلك المؤذنون ونحوهم، وأما الأراضي فلم يكن سلف الأمّة من الصحابة والتابعين يتعرّضون لها، وإنما حدث ذلك بعد عصرهم، حتى أنّ أحمد بن طولون لما بنى الجامع والمارستان والسقاية، وحبس على ذلك الأحباس الكثيرة، لم يكن فيها سوى الرباع ونحوها بمصر، ولم يتعرّض إلى شيء من أراضي مصر البتة، وحبس أبو بكر محمد بن عليّ الماردانيّ بركة الحبش وسيوط وغيرهما على الحرمين وعلى جهات برّ، وحبس غيره أيضا.
فلما قدمت الدولة الفاطمية من الغرب إلى مصر، بطل تحبيس البلاد، وصار قاضي القضاة يتولى أمر الأحباس من الرباع، وإليه أمر الجوامع والمشاهد، وصار للإحباس ديوان مفرد، وأوّل ما قدم المعز أمر في ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البرّ، وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها. وما يجب لهم فيها، وللنصف من شعبان ضمن الأحباس محمد بن القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بألف ألف وخمسمائة ألف درهم في كلّ سنة، يدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل ما بقي إلى بيت المال. وقال ابن الطوير: الخدمة في ديوان الأحباس وهو أوفر الدواوين مباشرة، ولا يخدم فيه إلّا أعيان كتّاب المسلمين من الشهود المعدّلين، بحكم أنها معاملة دينية، وفيها عدّة مدبرين ينوبون عن أرباب هذه الخدم في إيجاب أرزاقهم من ديوان الرواتب، وينجزون لهم الخروج بإطلاق أرزاقهم، ولا يوجب لأحد من هؤلاء خرج إلّا بعد حضور ورقة التعريف، من جهة مشارف الجوامع والمساجد باستمرار خدمته ذلك الشهر جميعه، ومن تأخر تعريفه تأخر الإيجاب له، وإن تمادى ذلك استبدل به، أو توفر ما باسمه لمصلحة أخرى، خلا جواري المشاهد فإنها لا توفر، لكنها تنقل من مقصر إلى ملازم، وكان يطلق لكل مشهد خمسون درهما في الشهر برسم الماء لزوّارها، ويجري من معاملة سواقي السبيل بالقرافة والنفقة عليها من ارتفاعه، فلا تخلو المصانع ولا الأحواض من الماء أبدا، ولا يعترض أحد من الانتفاع به، وكان فيه كاتبان ومعينان.
وقال المسبحي في حوادث سنة ثلاث وأربعمائة: وأمر الحاكم بأمر الله بإثبات المساجد التي لا غلة لها، ولا أحد يقوم بها، وماله منها غلة لا تقوم بما يحتاج إليه، فأثبت في عمل، ورفع إلى الحاكم بأمر الله، فكانت عدّة المساجد على الشرح المذكور ثمانمائة وثلاثين مسجدا، ومبلغ ما تحتاج إليه من النفقة في كلّ شهر تسعة آلاف ومائتان وعشرون درهما. على أنّ لكلّ مسجد في كلّ شهر اثني عشر درهما. وقال في حوادث سنة خمس