محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا: أبو عبد الله الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين، ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ، وناب عن والده في الوزارة، وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس، وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق، وحدّث، وله شعر جيد، ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر، وكان محبا لأهل الخير والصلاح مؤثرا لهم متفقدا لأحوالهم، وعمر رباطا حسنا بالقرافة الكبرى، رتب فيه جماعة من الفقراء، ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير، الذي كان بنو حنا يعادونه، وعنه أخذوا الوزارة، مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن، فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء، ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا، وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد، وقد نصبت له الخيام، وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون، فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير، وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس، فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه، ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره، وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ، وخلع على البشير بموت المذكور خلعا سنية، فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة، ففجع به أبوه، وكانت له جنازة عظيمة، ولما دلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ، صاحب البردة، في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد:
نم هنيئا محمد بن عليّ ... بجميل قدّمت بين يديكا
لم تزل عوننا على الدهر حتّى ... غلبتنا يد المنون عليكا
أنت أحسنت في الحياة إلينا ... أحسن الله في الممات إليكا
فتباكى الناس، وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا الجامع يقول السراج الورّاق:
بنيتم على تقوى من الله مسجدا ... وخير مباني العابدين المساجد
فقل في طراز معلم فوق بركة ... على حسنها الزاهي لها البحر حاسد
لها حلل حسنى ولكن طرازها ... من الجامع المعمور بالله واحد
هو الجامع الإحسان والحسن الذي ... أقرّ له زيد وعمرو وخالد
وقد صافحت شهب الدجى شرفاته ... فما هي بين الشهب إلّا فراقد
وقد أرشد الضلال عالي مناره ... فلا حائر عنه ولا عنه حائد